أ. د.عبد العزيز بن محمد الفيصل
منذ أشهر ضج العالم لحرائق الأمازون في البرازيل، ورأت عدة دول أن كوكب الأرض كل لا يتجزأ، فالحرائق في غربي الأرض كما في البرازيل أو في شرق الأرض كما في استراليا تخل بالتوازن البيئي، فالأشجار للأرض كالرئة للإنسان وقد سعت عدة دول لإطفاء الحرائق حفاظاً على خضرة الأرض.
وإذا كانت البلاد التي تكثر فيها الأشجار يسعى أهلها إلى الحفاظ على كل شجرة، إذا كان الأمر كذلك في البلاد الخضراء فمن باب أولى أن يسعى سكان الصحراء إلى الاهتمام بكل شجرة قائمة أنبتها الله وسقاها من غيثه، إن صحراءنا القاحلة تنعم بأودية تحتضن الأشجار الخضراء، فوجود تلك الأشجار نعمة من الله فما علينا إلا شكر الله والحفاظ على كل عود أخضر.
تحيط بمدينة الرياض روضات غناء وأودية خضراء، منها: روضة مسعودة ورياض القطا ووادي أثيلان الشرقي وروضة خريم وروضة التنهاة ووادي الشوكي ورياض الخفيسات وروضة النظيم ووادي الحيسية الشرقي والغربي وروضة الخفس الشمالية وروضة الخفس الجنوبية وروضة السوط ووادي أثيلان الغربي بالإضافة إلى رياض الصمان، فماذا فعلنا لتلك الأشجار القائمة والخضرة الدائمة، هل نعاقبها بالقطع والاجتثاث بعد أن أنبتها الله وسقاها أم نرعاها بالاهتمام والمحافظة عليها؟ لقد التفت إلى الحفاظ على الشجرة الخضراء خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز قبل ثلاثين عاماً عندما كان أميراً للرياض، فقد أمر بإحاطة روضة خريم بالأعمدة، فصانت تلك الأعمدة الأشجار والنبات، ثم أمر -حفظه الله- بأن تحاط روضة التنهاة بالأعمدة فشرع في تثبيت الأعمدة حتى حمتها تلك الأعمدة من دخول السيارات وعبث العابثين، إنه عمل جليل جنينا ثماره اليوم حيث تمددت فروع شجر الطلح وارتفعت أشجار السدر وكثرت شجيرات العرار بعد أن كانت نادرة وزهت الحنوة بزهرتها الحمراء وعلت الزهرة البنفسجية أوراق الجرجير البري وافترش النفل الأرض، وعم ريح الخزامى ما أحاط بالروضة حيث تمددت أغصانها وزهت، وحتى القيصوم تنوعت أزهاره الوردية والبنفسجية، وقد علت أغصان الحوذان وبرزت زهرتها الصفراء أما أزهار القلقلان الصغيرة التي تميل إلى البياض فقد كونت نمطاً من زينة الأرض وأسهمت في تلوين المنظر، إنها الحماية والرعاية جعلت ثمار الطلح الصفراء تتدلى من أغصانها وثمر السدر الصغير بحمرته الجذابة يغري بتذوقه وحتى العوشز برز ثمره الأحمر يا له من منظر جذاب يريح النفس ويجدد الأمل ويغري بالتمتع والسير بين الأشجار والنبات.
إن الرعي الجائر للنبات من لدن أغنام تجار الربح أولاً والربح أخيراً أضر بالبيئة واستأصل النبات، نرى اليوم قطعان الأغنام في عدد الألف والألفين مع رعاتها فإذا مرت على الروضة جردتها من النبات، فمثل هذه الأعداد من الأغنام لم تعهدها بيئاتنا من قبل، وما يجري على الأغنام يجري على الإبل، فاقتناء الإبل اليوم ليس مثل اقتنائها في السابق، فهي اليوم للزينة والمتعة، وإذا كان ضرر الأغنام الكثيرة ينصب على النبات فإن ضرر الإبل الكثيرة ينصب على الأشجار، إن اقتناء الإبل في السابق ضرورة وهي محدودة العدد، أما اليوم فهي للزينة والسباق، وما يقتنى منها لتجارة الجزارة قليل.
بعد عيد الفطر مددت الدولة- أعزها الله- الخروج من المنازل إلى (14) ساعة مما أتاح لي زيارة الشوكي الوادي المفضل لدي وكنت أتابع الأمطار في أول رمضان فعرفت أن غدران الوادي لن تنضب، ومن هنا عزمت على الذهاب مع معرفتي بتغير الجو وازدياد الحرارة، ولكن الرغبة تدفع الإنسان إلى ما يحب، سرت في الوادي لمدة ست ساعات، وهو واد يسر الناظرين، فالغدران ممتدة من أعلى الوادي إلى أسفله، وخضرة أشجار الطلح والسدر تكتنف ضفتي الوادي في خضرة تجلب البهجة فتذكرت الآيات الكريمة: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ وَمَاء مَّسْكُوبٍ} سورة الواقعة الآيات (27و 28و 29و 30 و31).
ومع تمتع العين بما يسرها شخصت أمام ناظري شجرة طلح معمرة قد اجتث عدو البيئة جذعها فهوت إلى الأرض وأخلت ظلها وزالت بهجتها وبقي أصلها شاهداً على الجرم، وقفت بجانب ما بقي من جذعها المرتبط بالأرض متألماً وأنا أقول -حسبي الله-.
واصلت السير في مسافة كيلو متر فإذا بطلحة أخرى قد اجتثت، وقفت بجانبها متألماً ثم واصلت السير لمدة عشر دقائق فإذا بثالثة قد قطعت وبقي جزء من جذعها الأسفل، سرت في الوادي لمدة ست ساعات أقف عند كل شجرة مقطوعة وأتألم، ثم ماذا؟! إن قطع الأشجار بالمناشير الكهربائية جريمة في حق البيئة، بينما يتباهي قاطع الأشجار بأن لديه (شاصاً) و(ماطوراً) ومنشاراً، فيسير في الشوكي ويختار من الأشجار ما تروق له، وخصوصاً الطلحة المعمرة التي تجاوز عمرها السبعين سنة أو أكثر، فيعمل فيها منشاره فتهوى إلى الأرض في منظر مؤلم لمن يشعر بقيمة الأشجار، أما هذا المتباهي فيفتخر بعمله بأن حصل على طلحة سيبيعها بمائتي ريال أو ثلاثمائة ريال أو يشعل النار في منزله مفتخراً أمام ضيوفه بأن وقوده شجر الطلح.
إن بيئتنا الصحراوية منذ العصر الجاهلي إلى ما قبل النفط أعدها الله لساكن قليل فمواردها المائية معدة لتلك الفئة القليلة، ونباتها أعده الله لماشية لا ترهقه بالرعي.
قبل خمسين عاماً تسير في وادي الشوكي فتجد بيوت الشعر منتظمة في جنباته، وصاحب البيت من البادية لديه مجموعة من الأغنام ما بين العشرين والأربعين فترعى تلك الأغنام في بيئة أعدت لها، فالنبات وافر والراعية لا ترهقه بالرعي، أما اليوم فتمر بالأرض خضراء وبعد أسبوع لا تجد فيها عوداً أخضر لماذا لأن تاجر أغنام حل فيها وأغنامه محملة في أربع شاحنات فأنزلها في الروضة وبقي فيها أسبوعاً ثم غادرها بعد أن رعت الأغنام كل عود أخضر.
إنني أطالب بمجلس للبيئة يضم المهتمين بها، وهم أصحاب المعرفة بالروضات والأودية ومعرفة الأشجار والنبات ومواسم الأمطار والرياح وتاريخ السيول والعواصف بالإضافة إلى من يملكون النفوذ في النواحي المالية والشؤون البلدية مثل وزير المالية ووزير الشؤون البلدية والقروية بالإضافة إلى وزير البيئة وأمير المنطقة عندما يكون الأمر متعلقاً بإمارته.
إن بعض الروضات وكلت حمايتها إلى إدارة المجاهدين، فسار أولئك على الطرق القديمة، وقاموا بما يستطيعون القيام به، ولكننا نريد اليوم حماية جادة لرياضنا وأوديتنا، فالوسائل اليوم متاحة عن طريق الإحداثيات والأقمار الصناعية ووسائل الاتصال، فبيئتنا أمانة في أعناقنا فهي لنا اليوم ولأبنائنا وأحفادنا في الغد، والله المستعان.