د. جمال الراوي
يمنع بعض الأهل أبناءهم من اللعب في الحارة، ويحرمونهم الخروج من البيت، ويمنعونهم من مقابلة بقية الأطفال، ولا يسمحون لهم في ممارسة هذا اللعبٍ البريءٍ، لأنّهم يرونه عبثًا، وحجّتهم أنّه مجلبةٌ للمشاكل، ومكان لتعلّم العادات السيئة والكلمات البذيئة؛ لا يدرون بأنّ اللعب حاجة غريزية، وأنّ الاختلاط بأقرانهم في أعمارهم ضرورة، وأنّ اللعب واللهو يلبي حاجة الطفل في ملء حياته، كما أنّ الركض وممارسة الرياضة يساهم في نمو العظام، ويسمح للجسم باكتساب المناعة، ويساهم في التطور البدني للجسم، ويساعد على اكتساب مهاراتٍ لا يمكن تعلّمها في البيت.
هؤلاء الآباء الذين يمنعون أبناءهم من الخروج إلى الحارة، لمقابلة أولاد الجيران؛ يلزمونهم المكوث في البيت، ويحضرون لهم الألعاب الإلكترونية؛ التي تُفسد الذهن وتكسب الأطفال صفات الانطوائية؛ لا يدرون بأنّ ما يتعلّمونه من هذه الألعاب أخطر وأسوأ مما يتعلّمونه من أولاد الحارة، عدا عن أنّ إبقاء الأطفال تحت نظر الآباء في البيت، يعرّضهم للتوبيخ والنقد من قبلهم؛ لأنّهم يراقبون سكنات وحركات أبنائهم، ويُكثرون لهم التوجيهات والانتقادات والأوامر؛ ممّا يُفجر صراعًا نفسيًّا لدى الأبناء.
معظم الجيل القديم؛ تربّوا على اللعب في الحارة، ولم تكن تتوّفر الألعاب الالكترونيّة وغيرها من أدوات اللعب المعروفة في عالم اليوم، وكانوا يلجؤون إلى ابتكار لعبهم وصناعتها بأنفسهم، ومما يجدونه من عيدان خشبيّة وأدواتٍ؛ يحصلون عليها من بين المُهملات في بيتهم أو في الحارة التي يعيشون فيها، وكانت على بساطتها تساعدهم على تنمية مهاراتهم، والإبداع فيها، وكانوا يشعرون بمتعة عجيبة، وهم يتنافسون فيما بينهم على صناعة ألعابٍ؛ تزيدهم الثقة بأنفسهم، وتعزّز القدرة الإبداعيّة عندهم.
تنتشر، اليوم، الحدائق وأماكن لعب ولهو الأطفال، والتي لا تخلو أيّة مدينة منها، وقد تجد بعض الأهل يحرصون على عدم أخذ أولادهم إلى هذه الأماكن خوفًا عليهم من الأطفال المشاغبين والمشاكسين، وخشية أنْ يتعلّموا عاداتٍ قبيحة وسيئة من أقرانهم، أو حماية لهم من أنْ يضربهم الأطفال ويعتدون عليهم، وغير ذلك من مبرراتٍ، لذا يجبرونهم على البقاء في البيت، ويشترون لهم كلّ ما يرغبونه من ألعاب الكترونيّة وجوالات؛ لينغمس الأطفال فيها؛ ولا يخرجوا منها إلّا وقد أصبحوا أسارى لها؛ فتجد هؤلاء الأطفال يقتلون ويضربون ويحاربون أعداءهم الوهميين في هذه الألعاب، ويتفاخرون، فيما بينهم، بالأعداد الكبيرة من ضحاياهم على شاشة اللعبة!!... وهذه من مساوئ هذا العصر؛ التي سوف تُساهم في تنشئة جيلٍ انطوائي، ومدمنٍ على ألعابٍ عبثيّة، وسيصبح جيلا لايعرف قيمةً للوقت، وسوف يكتسب صفاتٍ عدوانيّة، عدا عن الآثار النفسيّة والصحيّة عليهم، لأنّ الجلوس الطويل، وعدم الركض واللعب، يساهم في ضعف مناعة البدن، وسرعة تقبّله للأمراض.
أمّا لعب الأهل مع أبنائهم؛ فتلك معضلة أخرى، فكثيرًا ما تجد الأمّ غارقة في جوالها أو في مطبخها؛ لا تستطيع أنْ تلبي رغبة الولد باللعب معها، والجلوس بجانبها، وقد تفتح له التلفاز أو تعطيه لعبة أو غير ذلك حتى تُبعده عنها!!... أمّا الأب؛ فهو الآخر يعيش عالمه بعيدًا عن أسرته وأولاده، بسبب التزاماته الوظيفيّة، وما إنْ يعود إلى البيت؛ حتى تجده في حالة من الإرهاق البدني والنفسي، لذلك لا يستطيع تلبيّة حاجة أبنائه باللعب معهم، فيضطر إلى دفعهم عنه، رغم إنّه قد يحاول جبر خواطرهم لمدّة دقائق، ثم ينصرف عنهم للنوم أو لممارسة إحدى هواياته الخاصّة به، لمشاهدة التلفاز أو للجلوس على الحاسب.
اللعب حاجة غريزيّة لدى الأطفال، ولا بدّ من أنْ يمارسوها ويأخذوا نصيبهم منها، ولا يجوز حرمانهم من التمتّع بها، وعلى الأهل الدفع بهم على أنْ يلعب طفلهم مع أقرانه... ولا شك بأنّ تقنيات العصر وفّرت الأدوات اللازمة لتلبية هذه الغريزة، والتي يجب أنْ تكون منتقاة بحرصٍ وعناية، والمدرسة هي المكان الأمثل لتلبية هذه الحاجة الغريزيّة، لأنّها تجمع الطفل مع أقرانه، وتوفّر له المكان الأنسب لإطلاق طاقاته وتحريرها للإبداع.