د. عبدالله بن ثاني
وقَّع يوم الجمعة الماضي الرئيس أوردغان مرسومًا يقضي بتحويل آيا صوفيا من متحف إلى مسجد، وتحولت إلى قضية عالمية واستغلها أردوغان وحزبه ومن يسير في كنفه استغلالاً سياسيًا وانتخابيًا وتأزيمًا حركيًا لقضية كنيسة آيا صوفيا وتحويلها لمسجد كما جرت العادة، ليعطي أردوغان بهذا القرار مسوغًا لإسرائيل هذه الأيام في قضية ضم الضفة الغربية بما فيها المسجد الأقصى لها وتحطيم جهود شرفاء العالم دون اعتبار للإساءة الصريحة لسماحة الإسلام ودون مراعاة لمصلحة المسلمين في العالم وبخاصة في ظل تداعي الأمم عليهم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها بسبب الضعف والتشرذم والخلافات الداخلية بسبب الطائفية وحروب التوحش. وإن كان مثل هذه المغامرات غير محسوبة العواقب والمآلات غير مستساغة شرعًا فيما سلف من الزمان فإنها اليوم أولى وآكد، فالفعل خطأ في التوقيت الخطأ وفي المكان الخطأ أيضًا، ولي وقفات شرعية مع هذا القرار:
1 - ابتداء قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا...} (سورة الحج: 40)، وما أكثر وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين وأئمة السلف في النهي عن الإتلاف وقطع الشجر وقتل الحيوانات وتخريب الديار لتكون رسالتنا للعالم إنسانية تتفق مع شرع الله، قال خليفة رسول الله أبو بكر ليزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهما: «وإنكم ستجدون أقوامًا قد حبسوا أنفسهم في هذه الصوامع (الكنائس) فاتركوهم وما حبسوا له أنفسهم». وعند الواقدي في كتاب فتوح الشام أنه أوصاه «ولا تهدموا صوامعهم» تأكيدًا على سلامتها من الخراب. وقد فصل فقهاء الإسلام في هذه المسائل تفصيلاً يؤكد سمو المدرسة الفقهية وشخصياتها الخالدة بخاصة وسماحة الإسلام بعامة، علمًا أن كنيسة آيا صوفيا في مكان لم تستثنه النصوص القطعية كجزيرة العرب، وإن كان الحنابلة من أشد المذاهب في مسائل الكنائس ومع شدتهم فقد ورد في مسائل الإمام أحمد وابن راهويه ص 2 /634 أن الصلاة في الكنيسة جائزة إذا كانت نظيفة. وكذلك أجاز ابن قدامة (الحنابلة) الصلاة في الكنائس النظيفة في المغني ص2/ 57: «ولا بأس في الصلاة في الكنيسة النظيفة...»، ويقول أيضًا في المغني ص7 /283: «وهذا اتفاق منهم (الصحابة) على إباحة دخولها وفيها الصور، ولأن دخول الكنائس والبيع غير محرم»، وما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مع كنيسة القيامة إلا دليل على إنسانية المعاملة وعدالة الإسلام ويقظة ضمير التاريخ الإسلامي تجاه هذه الدور، إذ رفض الصلاة فيها خشية أن يتخذها المسلمون بعده مسجدًا...
2 - آيا صوفيا مملوءة بالقبور والأضرحة وهي مدافن للسلاطين العثمانيين، إذ ثبت فيها قبر السلطان سليم والسلطان بايزيد والسلطان مراد والسلطان محمد والسلطان مصطفى والسلطان إبراهيم وأكثر من 140 مزارًا، فالصلاة أصلاً في مسجدها كما هي فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية غير جائزة، استدلالاً بنصوص كثيرة منها ما ثبت في صحيح البخاري من قول الرسول صلى الله عليه وسلم في رده على أم سلمة عندما وصفت له كنيسة في الحبشة، فبقاؤها متحفًا أولى من تحويلها مسجدًا لا تجوز الصلاة فيه.
3 - يحتج المدافعون عن تحويل كنيسة آيا صوفيا بعد فتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح إلى مسجد بأن العثمانيين دخلوها عنوة وليس صلحًا، وعطفًا عليه يجوز لهم هدمها أو تحويلها إلى مسجد، وهكذا فعل محمد الفاتح في ظرفية لم نشهدها ولا يجوز لنا محاكمتها محاكمة غير موضوعية، ولكن نحن بصدد تسليط الضوء على فعل أردوغان المعاصر الذي يجهل المقاصد الشرعية المعتبرة في صورة تؤكد أنه ليس مثل محمد الفاتح وظرفيته، ولا تركيا العلمانية مثل الدولة العثمانية مهما كان اختلافنا التاريخي معها، كما أنه لا يجوز شرعًا أن يكون تحويل آيا صوفيا ردة الفعل لتحويل مسجد قرطبة إلى كاتدرائية فأحكام الإسلام ليست ردات فعل ولا تخضع مساجده للاستغلال السياسي والطموحات الانتخابية كما هو في تركيا اليوم، إذ روى العلامة ابن كثير في البداية والنهاية (19 /706) ما أوقعه الفرنج في مدينة الإسكندرية من الأمر الفظيع والخراب الكبير في الثاني والعشرين من شهر محرم من سنة 767هـ، وحينما أقلعوا أخذوا معهم أربعة آلاف من النساء والأطفال، وسمع لهم من العويل والبكاء والشكوى والجأر إلى الله والاستغاثة بالمسلمين ما قطّع الأكباد وذرفت له العيون وأصم الأسماع، ولما بلغت الأخبار أهل دمشق صدر المرسوم الشريف من الديار المصرية إلى نائب السلطنة في الشام بمسك النصارى والأخذ من أموالهم وإهانتهم، وكان جواب ابن كثير على السلطان آنذاك: «لم تكن هذه الحركة شرعية ولا يجوز اعتمادها شرعًا»، ولما طلبه النائب وقد أخبره بفتوى بعض العلماء بذلك أجابه: «فذكرت له أن هذا لا يجوز اعتماده في النصارى... هذا مما لا يسوغ شرعًا ولا يجوز لأحد أن يفتي بهذا..» ليؤكد الإمام ابن كثير عدالة الإسلام وسمو مبادئه الإنسانية في رفض الانتقام وردات الفعل.
4 - بعد قرار أتاتورك والعلمانية في تحويل مسجد آيا صوفيا إلى متحف في عام 1934م أصبحنا أمام قضية شرعية جديدة اليوم، يستحضر فيها المقاصد الشرعية المستنبطة من النصوص الشرعية فضلاً عن ردات الفعل العنيفة عند المسيحيين الأرثوذكس في العالم، بل الأولى بقاء آيا صوفيا متحفًا مسكوتًا عنه، إذ عبرت مؤسسات الغرب بأن هذه الخطوات قد تسبب في فجوة وجدانية ضخمة بين مسيحي العالم وتركيا وبخاصة أنه لم يقتصر فعل أردوغان على آيا صوفيا بل سمح مجلس الدولة بتحويل كنيسة شورا البيزنطية إلى مسجد، وكذلك تشجيع المسلمين في أوروبا وغيرها على ظاهرة شراء الكنائس وتحويلها لمساجد تزيد من معدلات الكراهية على المدى البعيد، يصف أحد المسلمين في ألمانيا هذا المشهد فيقول: «تتطاير شرارات العداء من عيون اليمين المتطرف تجاه كل مهاجر ولاجئ ومختلف ويأتي بعض من المسلمين في هذه الأجواء المشحونة فيشترون كنيسة ما ويزيلون رموزها المسيحية ويحولونها إلى مسجد وسط استعراض وتكبير وتهليل وملامح انتصار ويقدمون لليمينيين ذريعة فوق ذرائعهم ومسوغًا إلى مسوغاتهم».
5 - إن تقسيم البلاد (الصلح والعنوة) وما يترتب عليه في حكم الكنائس والبيع وغيرها من دور العبادة للأمم والتفريق بين كنائس البلاد التي دخلها المسلمون صلحًا فتبقى وترمم ولا تهدم ولا تتحول إلى مساجد وبين البلاد التي دخلوها عنوة فتهدم وتحول إلى مساجد يحتاج لمراجعة فقهية في ظل تكافؤ الأدلة والنصوص والروايات التي تحمي أو تهدم على السواء وحاجات المسلمين لمبادئ التعايش مع من حولهم من الأمم في كل عصر يختلف عن الآخر، وهل هذا التفريق من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، أم هو من استنباط بعض الفقهاء وبخاصة أنه ليس فيها نص قطعي وإنما اجتهادات من الخلفاء والأئمة والفقهاء بناء على المصلحة والحالة الظرفية في عهودهم، والتي ربما كانت تلك الاجتهادات حاضرة بحكم أن الغلبة كانت للإسلام والنصر للمسلمين بينما يختلف حال الأمة اليوم مما يستوجب صعوبة تطبيق تلك الاجتهادات وبخاصة فيما يتعلق بكثير من مسائل أبواب الجهاد.
6 - من ينعم النظر في نصوص الفقهاء يجد تسهيلات لا تخفى في مسائل الكنائس، ومن ذلك الحنابلة على شدتهم -رحمهم الله- ركزوا على «المصلحة المعتبرة» وبخاصة أنهم تجاوزوا في مسألة التفريق بين بلاد الصلح وبلاد العنوة إلى المصلحة التي خفيت على أردوغان اليوم، ولم يقفوا عندها وقوفًا ثابتًا بل كانت فتاواهم متحولة بحسب المصلحة والتقدير ليتأكد لنا أن التقسيم ليس قطعيًا وأن المنع ليس دائمًا، يقول ابن قدامة في الكافي ص4 /179: «وما كان فيها قبل الفتح في بلد فتح صلحًا أقر لأن الصحابة رضي الله عنهم أقروهم على كنائسهم وبيعهم، وما فتح عنوة كذلك..»، وقال ابن قدامة في المغني ص9 /388 في الوجه الثاني عند الحنابلة فيما فتحه المسلمون عنوة: «لأن الصحابة -رضي الله عنهم- فتحوا كثيرًا من البلاد عنوة فلم يهدموا شيئًا من الكنائس..». وقد عثرت أيضًا على نصوص لبعض فقهاء المالكية والشافعية تؤكد أن التقسيم السالف ليس قطعيًا وإنما بحسب المصلحة، ومن تلك النصوص قول العلامة المؤرخ شهاب الدين أحمد بن خالد السلاوي في كتابه» الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى» ص3 /185 . (دار الكتب) ما نصه: «أفتى علماء الأندلس في القرن الخامس بالإذن للنصارى في إحداث الكنائس بأرض العنوة وبما اختطه المسلمون من الأمصار مع أن الموجود في كتب السلف هو المنع، وما ذلك إلا لأن الأحكام المترتبة على الأعراف تختلف باختلاف تلك الأعراف».
7 - مما يؤكد أن المصلحة الراجحة معتبرة في هذا الحكم الشرعي ويقدرها ولاة الأمر في الأمة، إذ لا نصوص قطعية في المنع، قول العلامة أبي العباس بن زكري كما في كتاب «المعيار المعرب» ص2/ 222 إذ نص: «ونقل الشيخ أبو الحسن عن الشيوخ جواز الإذن للإمام في الإحداث (بناء الكنائس) إذا كانت مصلحته أعظم من مفسدته»، وهذا ما فهمه شيخ الإسلام ابن تيمية في قوله: «وقد كان في بر مصر كنائس قديمة، لكن تلك الكنائس أقرهم المسلمون عليها حين فتحوا البلاد لأن الفلاحين كانوا كلهم نصارى ولم يكونوا مسلمين، وأقروهم كما أقر النبي صلى الله عليه وسلم اليهود على خيبر لما فتحها...»، ويقول أحد فقهاء المالكية مؤكدًا فقه المصلحة في هذه المسألة في كتاب «منح الجليل»: «ولا يجوز للصلحي (نسبة الصلح) ولا للعنوي (نسبة للعنوة) إحداث كنيسة ببلد الإسلام التي نقلوا إليها أو التي انفرد باختطاطها المسلمون في كل حال، إلا لخوف ترتيب مفسدة أعظم من الإحداث على عدمه فيمكنون منه ارتكابًا لأخف الضررين»، ويقول صاحب التاج والإكليل أيضًا في الإحداث (بناء كنيسة جديدة) درءًا للمفسدة من عدم البناء: «وللصلحي الإحداث بأرض الصلح إن لم يكن بها معهم مسلمون وإلا ففي جوازه قولان: القول بالجواز لابن القاسم والقول بالمنع لابن الماجشون وليس له الإحداث ببلد الإسلام إلا لمفسدة أعظم»، ولفقهاء المالكية رأي معتبر في الإحداث في البلاد التي فتحت عنوة (القسطنطينية مثلاً).
8 - لشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة عظيمة في «مسألة في الكنائس» قائمة على فقه المقاصد والمصالح المرسلة ونقلها عنه تلميذه ابن القيم وهي تؤكد على عظمة فكر شيخ الإسلام، وقد تحدث عن حكم هدم كنائس النصارى في أرض العنوة (التي أخذت حربًا) فقال: «وقد أخذ المسلمون منهم كنائس كثيرة من أرض العنوة بعد أن أقروا عليها في خلافة عمر بن عبد العزيز وغيره من الخلفاء، وليس في المسلمين من أنكر ذلك، فعلم أن هدم كنائس العنوة جائز إذا لم يكن فيه ضرر على المسلمين...»، والضرر المعتبر عند شيخ الإسلام حاصل وبخاصة في هذا الوقت الذي يقاس فيه الهدم على التحويل واستحضار ذلك الضرر في ردة فعل العالم على المسلمين في قضية كنيسة آيا صوفيا مثلاً، وقد نص ابن القيم في كتابه أحكام أهل الذمة على هذه المسألة، ومن جميل ما قال: «بل ما أقروا فيه من كنائس العنوة يجوز للمسلمين انتزاعها منهم إذا اقتضت المصلحة ذلك كما انتزعها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل خيبر بأمره بعد إقرارهم فيها، وقد طلب المسلمون في خلافة الوليد بن عبد الملك أن يأخذوا من النصارى بعض كنائس العنوة التي خارج دمشق فصالحوهم على إعطائهم الكنيسة التي داخل البلد وأقر ذلك عمر بن عبد العزيز أحد الخلفاء الراشدين ومن معه في عصره من أهل العلم، فإن المسلمين لما أرادوا أن يزيدوا جامع دمشق بالكنيسة التي بجانبه وكانت من كنائس الصلح لم يكن لهم أخذها قهرًا، فاصطلحوا على المعاوضة بإقرار كنائس العنوة التي أرادوا انتزاعها وكان ذلك الإقرار عوضًا عن كنيسة الصلح التي لم يكن لهم أخذها عنوة» ومعروف أن الشام دخلها الجيش الإسلامي عنوة وليس صلحًا، وما أعظم فعل الخليفة عمر بن عبد العزيز لما شكا إليه النصارى ما صنعه الوليد ببيعتهم (كنيسة مار يوحنا) التي هدمها لتوسيع جامع دمشق فأمر عمر برد الكنيسة إلى أصحابها فغضب أهل دمشق وكبر عليهم أن يهدموا مسجدهم بعد أن أذنوا فيه وصلوا فتم الاتفاق على أن يكون للنصارى كنائس الغوطة وهي كنائس العنوة.. وكثيرًا ما ترد كلمة المصلحة في هذا الباب إيمانًا من فقهاء الإسلام بها ضرورة، مما يؤكد على أردوغان وغيره في أي فعل يتضرر المسلمون من مغامراتهم فيه أن يستحضر تلك المصلحة في قضية كنيسة آيا صوفيا لأن بقاءها متحفًا أولى من تحويلها لمسجد وبخاصة أن اجتهادات فقهاء الإسلام ومصادر الفقه الإسلامي تعاملت مع كنائس العنوة بعدالة يؤكدها قول الإمام ابن اليم: «فإذا ظهرت إمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه»، وكل تلك المساحات البيضاء تؤكد شمولية الشريعة وعدالة الإسلام وحياة ضمير التاريخ الإسلامي، بل إن المدرسة الفقهية العظيمة وما فيها من أدلة وعلل ومناط للأحكام تؤكد صلاحية هذه الشريعة لكل البشر وكل البلاد وكل زمان ومكان في ظل كل ما يتعلق بعدالة القواعد الفقهية المستنبطة من النصوص الشرعية وتطبيقاتها الإنسانية من مثل قاعدة درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وارتكاب أخف الضررين، والمشقة تجلب التيسير، والضرورات تبيح المحظورات، والضرر يدفع قدر الإمكان، والضرر يزال، كل ذلك من أجل الاجتهاد بتحقيق المناط في إخراج الأمة من أزماتها وشطحات المغامرين فيها. والله من وراء القصد.