د. جمال الراوي
كثيرون تحدثوا وكتبوا وقالوا عن فضائل الصمت، وأعطوه ميزات وصفات كثيرة، وقالوا إن الصمت ذو معانٍ فريدة؛ لأنه يحبس اللسان، ويلجمه، ويمنعه من نثر مساوئه الكثيرة، ويمنح الإنسان الوقار والأناة والرزانة التي يفتقدها الثرثارون والمِهذارون، الذين جعلوا من ألسنتهم سيوفًا مسلطة فوق رؤوس البشر، يزعجونهم بها، ولا يتوقفون عن الثرثرة والكلام الذي يتكلفونه، ويزعجون به جوارهم ومحيطهم، ويبيعون الكلام الرخيص في كل ميدان وموقف، وينثرون الكلمات والقهقهات على مسامع الآخرين، غير عابئين بما تسببه هذه الثرثرة من إزعاج ومضايقة للآخرين.
نحن في عالم يقدس الكلام، ويصفق لمن يتحدث بطلاقة، ولمن يصوغ الكلمات ويجمعها في جمل مترابطة وقوية؛ حتى يثير الحماس، ومن ثم يوصف بسعة الأفق، وغزارة البيان، وقوة التعبير، وسلاسة الكلمات على لسانه، بينما تجد الساكتين والمنصتين، الذين يتقنون فن الصمت، من الذين يصفهم الناس بالعزلة والانطوائية، وربما يقولون عنهم إنهم مصابون بأدواء نفسية، وإنهم فاشلون اجتماعيًّا، ولا يستطيعون التأقلم مع مجتمعاتهم، وغير ذلك من أوصاف ساخرة... وهكذا تجد العالَم، من أقصاه إلى أقصاه، وقد جعل من الكلام السلعة الرائجة؛ فمنذ الصباح تجد الفضائيات والإذاعات تنقل لك أنواعًا غير منتهية من الكلام، وهي إما تحدثك عن أحوال البشر في كل مكان؛ فتنقل لك بعضًا من لهوهم ولعبهم ومرحهم، أو تخبرك عن أحزانهم ومآسيهم!!
ما يثير ويلفت الانتباه أن هؤلاء الصامتين، الذين لا يتكلمون إلا عند الضرورة القصوى، قد أغلقوا أفواههم؛ فيعجب المرء كثيرًا من قدرتهم الفائقة على كبح لجام ألسنتهم، وعدم مشاركتهم، ويتساءل، في نفسه: ما بال ألسنتهم لا تعمل وتتحرك مثل الآخرين؟!!... هل يعيشون حالة نفسية ورهاب اجتماعي من التجمعات؟!!... أم هم أناس تعرضوا إلى تربية صارمة في بيوتهم؟!!... أم هي صفة وراثية أخذوها من أهليهم؟!!... أم هم من الذين ألجمت ألسنتهم، ولا يتقنون فن الكلام؟!!... فيحتار المرء في أمرهم، ويحاول الدخول إلى عالمهم؛ فيسألهم فيردوا باقتضاب، ويحاول إثارتهم أكثر، فيجدهم هادئين ووديعين؛ ترتسم على محياهم مهابة عجيبة ورزانة، ويكللهم الوقار... ويعود يسأل المرء نفسه: ما بالهم لا يخوضون مع الخائضين في مسابقة الكلام؟ ولماذا عطلوا ألسنتهم عن المشاركة؟ وما بالهم أرخوا عليهم هذا الصمت العجيب؟!!
لو بحث أحدنا عن هؤلاء الذين يتقنون فن الصمت لوجدهم يتكلمون، ولعرف أنهم يتقنون لغة الصمت والإصغاء التي نفتقدها في مجالسنا ومنتدياتنا، واستبدلنا بدلاً منها هذا الهرج والضجيج والفوضى، وقتلنا الصمت بكلامنا، وغيّبنا فضائله ودفناها... الصامتون هم الذين يكثرون الإصغاء والتأمل، وهم الذين يثيرون الرهبة في نفوس الحاضرين؛ لذا تجد كل مَن يتصدر في الكلام ينظر إليهم بين الفينة والأخرى؛ يحاول أن يقرأ تعابير وجوههم، وقد يلجأ إلى استثارتهم وسؤالهم إذا لم يستطع فهم سبب صمتهم، فيردون عليه باقتضاب شديد، فيواصل حديثه، وهو في حالة من الشك والرهبة!!
ليس من السهل معرفة حقيقة الصامتين، رغم قلتهم، وعدم انتشارهم بين الناس، ولكنهم يحملون فضيلة عظيمة، اكتسبوها لأنفسهم، وجعلوها عنوانًا لحياتهم... وهم ليسوا بقليلي ذكاء، ولا بعديمي خبرة في العلاقات الاجتماعية، ولا بمرضى نفسيين، ولكنهم من الذين حملوا فضيلة الصمت، وجلبوها معهم في المجالس والاجتماعات حتى يتذكر المتكلمون، ويحرصوا على أن لا يتمادوا كثيرًا في إزعاج صمتهم؛ لأن معظم ما يقوله ويردده المتكلمون من كلام لا فائدة ولا حاجة منه، وأنهم في كثير من الأحيان خاسرون؛ لأنهم سيكونون أسارى لما ينطقونه، وسوف ينقل عنهم، وقد يصبح حجة عليهم، أو يكون مثار سخرية وتندر بهم، بينما الصامتون هم الرابحون، وهم السر الكبير بين الناس، الذي لن يستطيع أحد الكشف عن تفاصيله... وسيبقى هؤلاء الصامتون يشيعون الرهبة والخوف في نفس كل من يريد الإساءة إليهم؛ لأنهم يحملون سلاح الصمت الذي لا يُغلب!!