د. عيد بن مسعود الجهني
تاريخنا الحديث يحكي قصة انتكاس العرب في مضمون أمنهم القومي فقد شهدت الخمسينيات من القرن المنصرم انشطار العرب إلى قسمين أحدهما تعلق بأهداب الاتحاد السوفييتي السابق والآخر يمم صوب الرأسمالية وعلى رأسها أمريكا.
وقد دارت الدوائر على العرب فشنت بريطانيا وفرنسا والدولة العبرية حربها على مصر بما عرف بالعدوان الثلاثي عام 1956م، ثم جاءت حرب 1967 التي هاجمت فيها إسرائيل ثلاث دول عربية في آن واحد، مصر والأردن وسوريا، ولا زالت بعض الأراضي العربية في سوريا ولبنان تحت الاحتلال بعد حروب إسرائيلية خططت بدقة على العرب.
ومما زاد الطين بلة أن الجزار نتنياهو أعلن عن ضم غور الأردن والمستوطنات بالضفة الغربية بدءا من هذا الشهر ومعنى هذا أن الضم سيصل إلى أكثر من 30 في المئة من مساحة الضفة الغربية، وبذا فإن إسرائيل قد ابتلعت أرض فلسطين.
وتعمقت فجوة الانكسار العربي بشكل غير مسبوق بالغزو العراقي لدولة الكويت في الثاني من أغسطس 1990م الذي قضى على بارقة الأمل البسيطة ووميضها الخافت في آخر النفق الطويل!!
وتركيا العطشى في النفط، الطامحة إلى موضع قدم على أرض العرب، هي تركيا التي استطاعت أن تعمق نفوذها داخل الحدود العراقية إلى (10) كيلو مترات بحجة مطاردة الأكراد داخل العراق بعد أن كانت بحدود (5) كيلو مترات في ظل تخلخل السلطة في العراق، وفي بلاد الشام امتد النفوذ التركي إلى أكثر من (30) كيلو مترا للغرض نفسه وأصبح على مشارف مدينة حلب التاريخية بل إن بعض السوريين أصبحوا من أصحاب الجنسية التركية.
وما يحدث على أرض ليبيا هو نموذج حي لما حدث ويحدث في سوريا، فالتدخل التركي والروسي في ذلك البلد يفتقد إلى الغطاء القانوني، فالقانون الدولي والشرعية الدولية وميثاق الأمم المتحدة ضد هذا التدخل، وإعلان القاهرة ومثله إعلان رؤساء القبائل الليبية إنما هو ضد التدخل.. وطلب الشعب الليبي ممثلاً في مشائخه ومعهم البرلمان الليبي من الجارة مصر التدخل لحمايتهم من الآلة العسكرية التركية، يعتبر طلبا قانونيا في مفهوم القانون الدولي والأعراف الدولية وميثاق الأمم المتحدة.
بعضهم يذهبون إلى القول إن تركيا ترسم خطوط عودة الدولة العثمانية من جديد، وحقيقة الأمر أن تلك الدولة انهارت في الثالث من مارس 1924م على يد أتاتورك العلماني، وذلك السقوط تنفيذا لمعاهدة لوزان 1923م التي قبلت بموجبها الدولة العثمانية شروط الصلح والمعروفة بشروط (كرزون الأربع) وبذلك التاريخ طرد الخليفة عبد الحميد الثاني من تركيا وتربع على رأس حكمها رجل جديد عنوانه العلمانية بكل صنوفها.
ولذا يمكن القول إن الدولة العثمانية غاب شمس اسمها منذ ذلك التاريخ ولن تعود لترى النور وبقي المشروع التركي الذي وضع أسسه أتاتورك وهذا المشروع لم ينجح في بلاد الشام بعد سنوات من الكر والفر.
وإذا كانت كل دول المنظومة الدولية تسعى لحماية مصالحها وفي بعض الأحيان تستعمل (القوة) في تحقيق ذلك لتأكيد نفوذها وهذا نراه متجسداً في الحالة الليبية التي يمم شطرها الغزاة طمعاً في ثروتها وموقعها الإستراتيجي وفي مقدمتهم تركيا، وبذا يبرز لنا أهمية الأمن القومي العربي، هذا الأمن إذا توافرت عناصره قادر على توفير أكبر قدر من الحماية والاستقرار الأمني لدوله وحماية أعضائه.
وفي تطبيق هذا المفهوم على الوضع الليبي، فإن الأمر الملح يستدعي تفعيل اتفاقية الدفاع العربي المشترك للوقوف في وجه العدوان على ذلك البلد الذي غزته أفواج من الميليشيات والتنظيمات المستأجرة مدعومة بالسلاح والمعدات ونقلهم إليه تحت غطاء اتفاقية تركية مع حكومة السراج تعد في المفهوم القانوني غير سارية في حق الليبيين.
حدث هذا التدخل والساحة الليبية تشهد فراغا سياسيا غير مسبوق تسبب في إحداث ثغرات في أمنها واستقرارها مكنت القوى الخارجية من التدخل توسيعا لمصالحها على حساب دولة ليبيا بسبب انقسام السلطة بين سلطة في طرابلس تعتبر مؤقتة كما قال الرئيس التونسي قيس سعيد والجيش الوطني في تصريحه للموند الفرنسية حيث دعا إلى تجمع القبائل الليبية في حوار وطني ينتهي بصياغة دستور مؤقت ثم دستور نهائي يتم التوافق عليه.
إذا الأمن القومي العربي في خطر محدق، فهو يخترق بشكل سافر كما حدث ويحدث في كل من سوريا ولبنان واليمن لتحقيق مصالح الدول صاحبة التدخل في الديار العربية، وامتداد التدخلات الخارجية إلى ليبيا قد تكون نتيجته تقسيمها وهذا يمثل خطرا حقيقيا على الأمن القومي العربي خاصة الدول المجاورة لها.
هذه الدول مصر وتونس والجزائر ليتها تعقد قمة ثلاثية تجنب ليبيا وشعبها من الانزلاق إلى ما لا تحمد عقباه، في ظل بلوغ التدخلات ذروتها بتشييد قواعد عسكرية على أرض ذلك البلد، وهذا يهدد أمن الدول الثلاث ناهيك عن تهديده لأمن وإستقرار ليبيا والأمن القومي العربي.
على العرب ونخص مصر التصدي لما يحدث على الساحة الليبية وينذر بخطورة التدخل والاختراق للأمن القومي العربي بل ومستقبل الأمة في ظل ما نشاهده من تطورات ومستجدات ومخططات رهيبة، تلحق الضرر والأذى بالأمة.
علينا العمل بجدية وبأسرع وقت لمعالجة هذا الشرخ العميق في أمننا القومي العربي بامتلاك القوة تصنيعا أولا واستيرادا ثانيا.. والبدء في الوقوف مع ليبيا كمثل حي.. لإحياء اتفاقية الدفاع العربي المشترك.
والله ولي التوفيق.