خالد بن عبدالكريم الجاسر
من هناك يبدأ المجهول، والغموض «كوريا الشمالية وكيم»، وجه لا انعكاس له بشكل مُختصر.. يميل للعُموميات ولا يتحدث بالتفصيل، ولو صغيرة؛ لأنه يُنصت أكثر مما يتكلم، ولا يمنح ثقته لأي شخص بسهوله، ويخاف من الخُذلان، فلا يُمكن لرادار أن يكتشف سُرعته، وردود أفعاله التي تَحذرُ منها جارتها الجنوبية وأميركا؛ لصُعوبة فهم ما يدور في عقله أو مشاعره؛ ليحكمها زعيم، يُخفي العديد من الأسرار خلف حدوده، منذ انقسام الكوريتين، لترث (الشمالية) الأيديولوجيا الاشتراكية عن السوفيت، بل وتعتبر أنها تطبق النموذج الأصيل للاشتراكية، فالجميع تقريباً متساوون فلا يُستغل الفقراء من طرف أصحاب الأموال، لأن وسائل الإنتاج بحوزة الدولة، التي أعاد «كيم» كتابة تاريخها السياسي وفق أهوائه الشخصية، جعل الاكتفاء الذاتي أحد أركانه، لكن أي حكم يزيل 99 % من أرشيف تقارير وكالة أنباء بيونغ يانغ حتى التي تتعلق بوالده؟! لتصير الدولة النووية صاحبة الشعب الثوري بامتياز خلاف الصينيين والروس الذين خلطوا الأمور، ليغلق «كيم» على شعبه أبواب ونوافذ العالم حتى من التلفاز أو الإنترنت لمنع الجديد الذي قد يؤثر فيهم، والأدهى أنهم حتى لو اكتشفوا التقنيات الانفتاحية العالمية، رأيتهم يشمئزون من حروب تمزق الدول بقيادات غربية لاهثة وراء كل شيء تحت غطاء محاربة الإرهاب، ونشر مبادئ الديمقراطية، وكذلك من المؤسسات المالية التي تستغل العامل والمواطن البسيط.
فلا عجب أن يحكمها زعماء ذات أيديولوجيات صادمة، جاء من نسلها «كيم جون أون»، «الزعيم العزيز» بالأطوار التي تصل للقتل -بلا رحمة- حتى أقاربه وذويه ومعاونيه وخصومه، وصلت لإعدام 11 شخصية مهمة في الحزب الحاكم، خلال عام 2016، حتى وصفها غالبية العالم بالتهور الجائح الذي لا يُنافس تنظيم داعش في طرق الإعدام والقتل الغريبة والقاسية، بواسطة مدافع مضادة للطائرات إضافة إلى قاذفة لهب، بحضور عدد من المواطنين ومنهم أفراد أسرهم. فإذا كنت تنتقد النظام، فيمكن إرسال ثلاثة أجيال من عائلتك إلى الجولاج (اسم يُطلق على معسكر كوري شمالي، وذلك لمشابهته لمعسكرات الاتحاد السوفييتي)».
إنه صاحب القرارات الغريبة والمضحكة، محذراً أياً من خالفها بعقوبات قاسية، وأغربها: منع إطلاق اسمه على المواليد الجدد، وتغيير توقيت كوريا الشمالية المحلي في الذكرى الـ70 لاستقلالها عن حكم اليابان، وذلك للخروج مما أسماه «هيمنة الإمبريالية اليابانية»، وأطلق على هذا القرار «ولادة توقيت بيونغ يانغ» ليكون كـ»عبادة الفرد»، حتى قصة الشعر تدخل فيها، فستالين نفسه لم يصل إلى هذا الحد.. لتكون بلا خلاف، مصدر تهديد غير عادي لمنطقة آسيا والمحيط الهادي، بل وأميركا، حتى جارتها الصينية لم تسلم منها بمناوشات إعلامية قال فيها الشماليون: «إن كوريا الشمالية لن تتسول أبدا من أجل الحفاظ على صداقتها مع الصين». فلا عجب أن تُفجر بين يوم وليلة لمجرد نزوات وأهواء تملكتها «الأنا العليا» النيرونية التي أحرقت روما، ليحرق مكتب اتصال الكوريتين بمدينة كايسونج الحدودية، ويهدد بتحرك عسكري ضد جارتها الجنوبية لإخفاقها في وقف المنشقين من إرسال منشورات معادية لبيونج يانج جواً عبر الحدود، ليأتي الرد بالتفجير.. أعقبه استعداد لإطلاق حملة منشورات ضدها، على يد «الغاضبين الشماليين». حتى قالت فيفيلد صاحبة كتاب «الخلف العظيم»: «عندما سألت امرأة أخبرتني عن تجاهلها للنظام ولماذا لا يحاول الكوريون الشماليون القيام بشيء حيال ذلك، قالت إنك إذا عارضت النظام فأنت لا تحاول تغييره، فأنت تحاول الهرب فقط.
لا تزال الكوريتان في حالة حرب رسمياً، منذ أن دارت رحاها 1950- 1953 انتهت بلا سلام ظل كيده للآن يعلوها حكم الرأسمالية البعيدة عن شعب مأسوف عليه، لتبقى الأيديولوجيا راسخة إلى أجل غير معلوم، لصاحب القومية والانعزالية ذات المفهوم الجوتشي (الاعتماد على الذات)، والذي، يراه «كيم» جزءًا من «الكيم إيلسونغية»، وباتت بيروقراطيته تُعرِّض ما تبقى من الاقتصاد المخطط للخطر. ولن يكون من الدهاء أن نعتقد أن مكاسب الثورة آمنة بين أيدي هؤلاء البيروقراطيين المتشابهين لحد ما مع الستالينيين الروس والصينيين في الجوهر، حتى يبدو أنهم قد قرروا بالفعل تتبع الطريق الصيني للدفاع عن مكاسب الاقتصاد المخطط.. ورغم كل ذلك فإن المتضرر الأكبر الوحيد في كل الحالات هي كوريا الشمالية، فاقتصادها الضعيف أصلاً في أسوأ حالاته منذ سنين.. لذا فإن الطريق الوحيد إلى الأمام هو العيش في سلام بين الشمال والجنوب على حد سواء، وربما الأفضل لبقية العالم.