د. حسن بن فهد الهويمل
قدري الحميد خلوصي من التَّمذْهب، والتعصب. العقلاء العالمون المجربون المستبرئون، لا يتقفَّصون بمذهب، ولا يتعلقون بِمُتَمَذْهِبٍ، ولا يتعصبون لرأي، ولا يحتكرون الحقيقة، همهم الحق، ودأبهم العمل، وحرمة المسلم عندهم فوق حرمة الكعبة.
هناك (إسلام فكر) ينتمي إليه المفكر، ثم لا يقيم وزناً لشعائره. وهناك (إسلام حركي) يمارس المنتمي إليه التشريد، ثم لا يرقب في مسلم إلَّا، ولا ذمة.
شعاره الزائف (الحاكمية)، وحلمه الباذخ (الأممية) حتى إذا جاءته الخلافة تجر أذيالها، أصبح همه تثبيت قدمه، وتجويد كرسيه، ورعاية مصالحه، وعلاقته بالدافع، والتابع، وعنده استعداد للتحالف مع الشيطان في سبيل مصالحه، ثم لا يعنيه نوع الوقود لتحريك عجلة المصالح، أكان من الجماجم، أم من الدماء، أم على حساب الحريات، والكرامات، والأمن، والاستقرار.
وإذا ذكّرْته بخطاب التغرير، والتهييج، وشحن المشاعر، والكلام المعسول، قال: (لكل حَدَثٍ حَدِيثٌ) ومخاطبة الدهماء في الشوارع، غير خطاب القصر، وذوي الهيئات. وخطاب أصحاب المناصب، غير خطاب المكاسب.
علماء، ومفكرون، وقادة فُتِنوا بالشعارات الفارغة، والمستجدات الزائفة، وجدوا في الحزبيات، والطائفيات، والمذاهب الهدامة مجالاً للتحشيد، والتصعيد، وإراقة الدماء.
ومن ورائهم أوجف الانقلابيون العسكريون بمصطلحات: (الرجعية) و(العمالة) و(التخلف) و(العروش) فهُدِّمت بيع، وصوامع، ومساجد يذكر فيها اسم الله، وقوضت عروش، وخوِّن قادة، وهُيِّجت غوغاء، ضاع معها الأمن، والاستقرار، وسقطت هيبة السلطة الشرعية، وما عرف الغادي فيها الرائح.
ولمَّا يزل المغفلون يعظمون من أوردوا أمتهم دار البوار، وشددوا وطأتهم على شعوبهم.
بالانقلابات العسكرية أخليت الثغور، وعمرت القصور، وطرحت الشعارات الفارغة البراقة كـ(القومية) التي أقبل الناس عليها، وأطاحوا بكل شعار، سواها.
كان الولاء (للدين، والأرض)، بوصفهما من مقاصد الإسلام، وكان الناس بمختلف مذاهبهم، وطوائفهم متصالحين لحماية أمنهم، واستقرارهم.
يَعْرِف كلُّ قوم ما لهم، وما عليهم، همهم العمل، والعبادة، والسمع، والطاعة، والولاء للحاكم، لا يتعصبون، ولا يهتاجون، وليست لديهم شعارات تُلْهِب العواطف، وتُعْشي الأبصار، وتعمي البصائر.
لعبت (القومية) بمصالح الشعوب، وباعوا في سبيلها دينهم، ودنياهم، ثم انهارت، وخيبت الآمال. واشتعل الصراع بين (القُطْرِيَّةُ) و(الأممية).
وتفرقت الشعوب بين ماركسية إلحادية، ورأسمالية مادية، واستفحلت القابلية للتبعية، مصداقاً لـ(جُحْرِ الضَّبِّ). وتتابعت الانقلابات العسكرية، البيضاء، والحمراء، وتحولت لغة الحوار إلى لغة صدام، وتصنيف، وتخوين، وساد المواقف ألسنة حداد، تسلق الظاعن، والمقيم.
لقد أشعلت الألْسِنَةُ الفتن، ودخلت الأسِنَّةُ الصراع، فهان القتل، ورخصت الدماء. وتجلت قيمة (الثبات) على المبادئ.
حكام، وعلماء، ومفكرون، وأدباء لم تستخفهم شياطين الإنس، لزموا الحق، ورضوا بالواقع، وأداروا أمورهم بالحكمة، والروية، وبعد النظر.
حاول شِرارُ الخلق الزَّجَّ بهم، وبشعوبهم في أتون الفتن، ولكن الله ربط على قلوبهم، وثبت أقدامهم، وأقنعهم بما آتاهم، فكان أن أمنوا على ضروراتهم الخمس، واستقاموا على المأمور، ولزموا الهدوء، وجنحوا للسلام، والدفع بالتي هي أحسن، فكانوا بلسم جِرَاح، يأسون، ويواسون، ويتوجعون.
شعوب نجت بفضل قادتها، وعلمائها، وإن بدت بوادر الشر عند شرذمة قليلة، استهوتهم الشعارات، وأزلتهم الادعاءات، ولكن الله أحبط أعمالهم، وخيب آمالهم.
ولما تزل الفتنة قائمة، ودعاة السوء على مفترق الطرقات، فصراع الحق، والباطل أزلي، والعاقل من يأخذ حذره، ولا يأمن على نفسه، ومثمناته:
(ومَنْ رَعَى غَنَماً فِي أَرْضِ مَسْبَعَةٍ
ونَامَ عَنْهَا تَولَّى رَعْيَها الأسَدُ)
دول عربية نجت من وباء الانقلابات العسكرية، والشعارات القومية، والتقوقعات الحزبية، والضوائق المذهبية، وذِلة التبعية.
تتقي من العدو تقاة، وتدفعه بأهون الضررين. ويأتي حماة المقدسات، وعلماؤها، وأهل الحل، والعقد فيها في مقدمة من ثبتوا على الحق، ورضوا بأن يكونوا بعيدين عن تقلبات الطقس السياسي.
يؤمنون بسنن التدافع، والتداول، ويتمترسون خلف إيمانهم، يشترون السلامة، ولا يستسلمون. ويجنحون إلى السِلم، ولا يخنعون. وينصرون الله بالدعوة، والإصلاح، والصلاح.
واليوم، وقد عمَّ البلاء، وكثر الأعداء، وتنوعت جبهات المواجهة، أمن المواطن بأن المكر السيء، لا يحيق إلا بأهله.
جَبْهةٌ كصخرة الوادي.
وثَبَاتٌ كالجبال الرواسي.
واستقامة على المأمور، لا تعصف بها الأهواء.
وثقة بنصر الله الموعود.
اللهمَّ ردنا إليك رَدَّاً جميلاً. وأجِرْنا من الفتن ما ظهر منها، وما بطن.