د. محمد بن عبدالله آل عمرو
هذا المثل للنعمان بن المنذر؛ وقصته أن رجلاً من بني تميم، يقال له: ضَمُرة كان يُغِير على مسالح «حمى» النعمان بن المنذر، حتى إذا عِيل صبر النعمان كتب إليه: أن أدخل في طاعتي، ولك مائة من الإبل، فقبلها وأتاه، فلما نظر إليه ازدراه، وكان ضمرة دميماً، فقال: «تسمع بالمعيدي لا أن تراه»؛ فقال ضمرة: مهلاً أيها الملك، إن الرجال لا يكالون بالصيعان، وإنما بأصغريه، قلبه ولسانه، إن قاتل قاتل بجنان، وإن نطق نطق ببيان. قال: صدقت لله درك .....» والقصة بكاملها في كتاب جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري».
نعود لأصل المثل -تسمع بالمعيدي لا أن تراه- وفي قول -أن تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه- فكثيراً ما نسمعُ ثناءً ومديحاً لشخص ما لجميل قوله أو عمله، ولما يتحلَّى به من جميل الخصال، ومن سمات الكمال، حتى إذا تعاملت معه عن قرب، وجدته خلاف ما قيل عنه، وخاب ظنك فيما قدرته له من التقدير والتوقير والإجلال، وفيما منحته من الفرصة والتمييز عن غيره، وسبب ذلك هو البون الشاسع في نظرة الرجال للرجال وتقييمهم، حيث تتأثر تلك النظرة باختلاف مشاربهم الثقافية، واختلافاتهم الفكرية، وولاءاتهم العصبية، والجغرافية، والمذهبية، ولهذا لم يُجِز عمر بن الخطاب رضي الله عنه في القصة المشهورة تزكيةَ من زكى أحدَ الشهودِ عنده بعدله وفضله لأنه لم يكن جاره القريب فيعرف مدخله ومخرجه وليله ونهاره، ولم يتعامل معه بالدينار والدرهم فيعرف ورعه، ولم يرافقه في السفر فيعرف عنه مكارم الأخلاق.
وتعد الواسطة في التوظيف، والترقيات، ونحوها، مدخلاً واسعاً لتكاثر حالات «المعيدي»، فكم من الفرص أعطيت لأشخاص لا يستحقونها، لأنه تم تقديمهم لصاحب الصلاحية على أنهم يمتلكون من الخبرات والمهارات الوظيفية ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، حتى إذا باشرَ أحَدُهم العملَ وأوكلت إليه المهام الوظيفية بان على حقيقته كَلاً على جهة التوظيف أين ما توجهه لا يأتي بخير، ورأيته يفشل في أبسط مهارات مقابلة الجمهور عملاء الجهة من بشاشة الوجه، وحسن القول، وأدب الحوار، ولطف المعاملة، ناهيك عن الفشل في مهارات الوظيفة ذاتها.
وعلى خلاف ذلك يقع بعض الرجال تحت طائلة جور التقييم الظالم، فيُسمع عنهم من منكر القول والعمل ما ليس فيهم، وما هم منه براء. سمعت رجلاً يصف أحد المسؤولين بأنه مستكبر ولا يقيم وزناً لعملاء إدارته، فقلتُ له: هل سمعتَ أنه أساء القولَ أو التصرفَ مع من تعرفه؟ قال لا. قلتُ هل جاء من تعرفه إلى مكتبه ولم يتمكَّن من مقابلته وعرض حاجته عليه؟ قال لا. قلتُ: إذاً فاتق الله ولا تكن أذنك وعاء شر؛ وجمعني مجلس مع من يُؤخذ كلامه في تقييم الرجال، فقال: إن فلاناً -علماني - يشير إلى أحد الحضور في المجلس - قلت له: كيف عرفت ذلك؟ قال: لأنه قد أسبل ثوبَه وقصَّر لحيته! قلتُ له: هل تعرف مفهوم العلمانية وحقيقتها؟ إن لم تكن تعرفه فاقرأ عنه ثم اتق الله فيما ينطق لسانك، ويكتب قلمك، ولا تكفّر مسلماً.
ترى كم من العلاقات الاجتماعية قد فسدت بسبب تحميل «المعيدي» ما لا يحتمل من القول مدحاً وثناءً، أو ذماً وازدراءً، وكم من الحقوق المشروعة للمعيدي قد فاتته بسبب ذمه وانتقاصه ممن لا يعرف حقيقته وأصالة معدنه، وكم من الحقوق غير المشروعة قد تمكن منها ذلك «المعيدي» بسبب مدحه والثناء عليه بما هو غير أهل له.
خاتمة لعباس بن مرداس السلمي:
تَرى الرَجُلَ النَحيفَ فَتَزدَريهِ
وَفي أَثوابِهِ أَسَدٌ مُزيرُ
وَيُعجِبُكَ الطَريرُ فَتَبتَليهِ
فَيُخلِفُ ظّنَّكَ الرَجُلُ الطَريرُ