د. سامي بن عبدالله الدبيخي
واقع التخصيص بالشراكة بين القطاعين العام والخاص لتقديم الخدمات العامة وتنفيذ البنى التحتية في الدول العربية النامية، وخصوصاً دول الخليج، يمر بمرحلة مهمة لإعادة ترتيب الأرضية بقوانين وتشريعات، وتطوير أطر تنظيمية وترتيبات مؤسساتية وإجراءات تأهيل وطرح وترسية تعجل من وتيرة إصلاح الاقتصاد بالتخصيص، فالهدف فتح الآفاق واستقطاب الاستثمارات وتقديم التسهيلات وتبسيط الإجراءات وتعزيز الثقة، وأيضاً توفير بنية تحتية وخدمات عامة متطورة وتوليد الوظائف للمواطن.
إلا أن القطاع الخاص في المنطقة اعتاد على أن الحكومات تبادر وتصف المشاريع والمبادرات وتطرحها، وهي «ثقافة» حان الوقت لتغييرها، لأن نموذج التخصيص بالشراكة يعتمد على قدرة القطاع الخاص وبطرق ابتكارية على المبادرة وتصميم وتدبير النفقات الرأسمالية والتشغيلية والاستثمارية للمشروع ومن أطراف عدة، وتحمله لمخاطر التنفيذ ومنها الجدولة الزمنية والإنجاز وتخفيض التكلفة والمبالغ المالية المستثمرة؛ نظراً لكفاءته.
فنياً، أساليب الطرح والتعاقد لتقديم الخدمات العامة وتنفيذ البنى التحتية لها خيارات متعددة ما بين العامة (الحكومة) والخاصة (القطاع الخاص وقوة السوق)، ويندر أن تُقدم عن طريق الحكومة بالكامل أو القطاع الخاص: إما أن تميل للطرف الحكومي أو للطرف الآخر القطاع الخاص. ولكن هناك «مستويات وأنشطة» تحدد اختيار أحد تلك الأساليب وتصميمه: (1) المستوى الإستراتيجي ووضع السياسات العامة، والتي تأخذ بالاعتبار: الأهداف، العدالة الاجتماعية والإنصاف، الاعتبارات الاقتصادية والبيئية، الكفاءة. (2) المستوى التكتيكي التنفيذي: شمولية الخدمة، التغطية والتصميم، التكامل. (3) المستوى التشغيلي: عمليات التشغيل والتوظيف والتنفيذ اليومية المستمرة. لذا فإن مهام تقديم الخدمات والبنى التحتية العامة ضمن المستوى الأول «الإستراتيجي» ووضع السياسات تقع ضمن نطاق عمل الحكومة ومسؤولياتها، بينما المستوى الثاني: التكتيكي والثالث: التشغيلي؛ يشارك القطاع الخاص في تنفيذهما.
نموذج «التملك الحكومي» هو الشكل النمطي الاعتيادي لأساليب تقديم الخدمات العامة والبنى التحتية، ويركز على أن القطاع الحكومي (بما فيه الهيئات الحكومية state agency والشركات الحكومية state-owned companies ) مسؤول عن جميع المستويات الثلاثة وأنشطتها وتفاصيلها، وقد بدأت الحكومات بالتخلي عن هذا النموذج ولكل أسبابه، وتمكين السوق بشكل كامل أو جزئي، وفي بعض الأحيان مفتوح ومتروك لقوة السوق مع إلغاء وتحجيم القيود التنظيمية deregulation لتحفيز المنافسة وضمان مشاركة صغار ومتوسطي المستثمرين SMEs لتجنب الاحتكار. لذا برز وانتشر الشكل الثاني: أسلوب ترك «تقديم الخدمات والبنى التحتية عبر القطاع الخاص والمحررة من القيود التنظيمية» deregulation، في دول العالم الثالث بشكل واسع، بحيث إن القطاع الخاص يتولى البناء والتشغيل (يقدم منتجاً استهلاكياً يضبطه السوق بعلاقة مورد ومستهلك) وبدون تنظيم، ويحكمه بالغالب عقود خاصة بين الطرفين private contracts، ولا يوجد تخطيط أو تكامل أو تحديد لسقف تسعيرة الخدمة ومستواها ومراجعة دورية لها، والنتيجة في الغالب: مستوى خدمات عامة وبنى تحتية ضعيفة ومتدهورة مع الوقت.
أما الشكل الثالث والذي يحصل اللبس فيه ويعتبره البعض تخصيصاً وهو أقرب إلى طريقة التوريد التقليدية فهو أسلوب «الإسناد للقطاع الخاص» Outsourcing لزيادة مساهمته وتمكينه، بحيث يتولى القطاع الحكومي الاكتفاء بالتنظيم والإشراف، بينما يتولى القطاع الخاص التشغيل، ويشتركان/ يتعاونان بالتخطيط. فيتطلب وجود/ تأسيس جهة حكومية مركزية «متمكنة ومتخصصة» تتولى التنظيم والإشراف وتشارك بالتخطيط والتكامل. وفي هذا النموذج تكون الحكومة مسؤولة عن المستوى الإستراتيجي وأيضاً المستوى التكتيكي، بينما تسند التشغيل للقطاع الخاص بطرحه على شكل «عطاءات تنافسية» وفقاً للتكلفة والجودة، ومصممة بأشكال متعددة تراعي التغطية الجغرافية وقوة السوق وتمكين صغار ومتوسطي المتعهدين لمنع الاحتكار. وفي بعض أنواع الخدمات والبنى التحتية ولغرض رفع الكفاءة والتنافسية وتحفيز الابتكار تعطي الحكومة «مساحة» محدودة وخجولة للقطاع الخاص للمساهمة في المستوى التكتيكي.
والشكل الرابع، موضوع هذا المقال المراد دعمه وتعزيزه، فهو أسلوب «التخصيص بالشراكة» بين الحكومة والقطاع الخاص وزيادة مساهمته Public Private Participation. والمبدأ الأساسي للتخصيص بالشراكة وجود اتفاقية/ عقد بين الحكومة والقطاع الخاص، بحيث تُعِد الحكومة المستوى الأول: الإستراتيجي وتطرحه «كعطاءات تنافسية» وفقاً للتكلفة والجودة، وتضع محفزات للقطاع الخاص، وهناك تباين كبير في عملية تصميم هذا الأسلوب ونوع وطبيعة المشاركة، وهناك أيضاً خيارات وأشكال متعددة لتصميم التعاقد/ الامتياز تصل إلى أن القطاع الخاص يتولى مسؤولية التخطيط (المستوى الثاني التكتيكي بالكامل أو معظمه)، بالإضافة إلى كامل المستوى الثالث: التشغيلي، وتصميم وتدبير كامل المبالغ الرأسمالية والتشغيلية، ولكن هذا يتطلب توفر البناء المؤسسي الحكومي المتمكن والمتخصص، إضافة للدراسات المتكاملة للطرح والتعاقد لتصبح مشاركة القطاع الخاص فعالة على المستويين التشريعي والتنفيذي، وبما يضمن عدم العبث بالمكتسبات الوطنية واستغلال الآخر للتوجه الإستراتيجي والتجربة.
ختاماً، تعد «تجربة التخصيص بالشراكة» بين الحكومات والقطاع الخاص دولياً فكرة رائعة توسعت فيها بريطانيا، أما أمريكا فهي الأقل في تطبيقها، بينما يدفعها في معظم الدول النامية الرغبة للحصول على القروض. وما زال يواجه التخصيص بالشراكة تحديات رئيسية مثل: اختيار التوقيت الصحيح للبدء، واكتمال السياسات والتنظيمات والتشريعات والقوانين، وصعوبة ترويج الفكرة وجذب المستثمرين وبناء الثقة. وبشكل عام وفي بعض القطاعات بشكل خاص ما زالت التجربة غير ناضجة ولا يوجد قاعدة قوية للحكم عليها وقياسها نظراً لعدم انقضاء المدة الزمنية لمعظم عقود/ اتفاقيات الامتياز، أو لعدم وجود أو عدم كفاءة الجهات التنظيمية للقطاعات التي تم تخصيصها بعد عقود من الزمن تحت مظلة التنفيذ والتشغيل عن طريق الحكومة.