مها محمد الشريف
لا ينبغي لنا أن نتسرع بدعوى حب التقنية ومفاهيمها والاكتشافات الضخمة في العصر الصناعي والمنهج العلمي ووهجها الذي يزداد شدة مع الأيام، والتأثير في العالم بغية إخضاعه لحاجات الإنسان ورغباته العملية والعلمية وتجاهل الصعوبات، فهل معنى ذلك انتهت مشكلات العالم وظهرت معها صياغة جديدة لطرح أسئلة على أنفسنا وعلى الآخرين يغلب عليها السجال والتردد والنقاشات، بشأن قناعات وأفكار رفعت مستوى الخدمات والتعاملات العامة والخاصة، وهي في الواقع عكس ما يجب أن يكون، لذلك يبقى الجواب مستحيلاً وفاقدًا لكل الأدلة.
إن المشكلات الحقيقية ما زالت موجودة مثل الأوبئة والحروب والفقر في العالم وشح المياه والتصحر في الشرق الأوسط، فأين عصر التطور التقني من كل هذا؟، يبدو لي السؤال هنا سيعاد طرحه باستمرار وهو لا يمثل ضمانة كافية للحكم عليه بأنه صائب أو خاطئ، وعلى الباحث أو الكاتب أن يميز المشكلات الحقيقية عن المشكلات الزائفة.
ويقتضي بلوغ غاية المعرفة من جميع التقنيات في حياتنا بالقدر الكافي لاكتساب ما نصبو له من كمال الهدف المنشود، كما يجب أن يوجه العالم كل أعماله وأفكاره في اتجاه هذه الغاية، وهذا يجسد تحديد رهان التفكير في إشكالية الخير الأسمى عند الفلاسفة، وإبقاء العقل في الطريق السوي عوضًا عن سباق التسلح وإثارة الفتن والصراعات لتزدهر هذه الصناعة التي تسببت في هلاك الإنسان وتشريده وفقره وحرق طبيعة أرضه.
لم يستفد من هذا التطور التقني إلا تجار الأسلحة العسكرية الفتاكة التي تقدر أرباحها بمئات المليارات من الدولارات وتعد من أغلى الصفقات رواجا في العالم بسبب الحروب والنزاعات المحلية والدولية وفي مقدمتها نزاعات الشرق الأوسط، ولو تم صرف جزء صغير من أموالها يكفي لحل مشكلات الفقر والبطالة في العالم، وتأتي في الأهمية بعدها الأرباح التي حققتها شركات الأجهزة الذكية والجهود التي تبذلها لتلبية الرغبات قدر الإمكان، وبالمقابل لم تترك مجالاً ضئيلاً لمساعدة الإنسان القابع في فقر مدقع يموت من الجوع والجفاف.
لم تفلح الدول المتطورة تقنيًا بعلاج وباء من الأوبئة التي فتكت بالبشر وراح ضحيتها الملايين. بل ماذا قدمت الشركات العملاقة في العالم للحفاظ على روح الإنسان أين شركات الأدوية والمستلزمات الطبية التي سقطت في الدول الأكثر تطورًا أمام جائحة كورونا كوفيد - 19، فهل أخذوا من متع الحياة ما يساعد على حفظ الصحة؟
من خلال المعطيات والنتائج التي يشهدها إنسان اليوم سقطت أمامه تقنيات الدول الكبرى في العالم الأول الغارقة في المصالح السياسية والاقتصادية والإصابات بالفيروس تتجاوز الحد المعقول، فالولايات المتحدة الدولة العظمى، وبفارق شاسع عن سائر دول العالم، تعد البلد الأكثر تضرراً من جراء جائحة كوفيد - 19 على صعيد الإصابات أو على صعيد الوفيات.
لقد عمت نظرة تشاؤمية حول تاريخ هذه الدول التي جعلت العلم والتقنية كإيديولوجيا بمنطق الأداء والنجاعة وهي في الحقيقة عقلانية عنيفة استبدادية تحت تأثير الفكر الماركسي الذي اقترن بالاغتراب الاقتصادي والقمع بمختلف مظاهره كما قال عنها كثير من الفلاسفة في كتبهم، واتفقوا على الدعوة إلى ثورة شاملة تعيد تصحيح توجهات الحضارة اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا، ولكن المعطيات تقول لا جديد في الفكر الاستبدادي والاستحواذ على قدر كبير من المؤشرات التي تدينه.
لذلك كي نفسر كل هذه المتناقضات يلزمنا عقول فائقة تدركها وتباشر بطرح حلول جذرية لها، وقال إريك فروم: «إن الأمل الكبير الذي جاءت به التقنية في تحقيق السعادة والرفاهية للبشرية كشف عن خيبة أمل، وفشل في تحقيق الوعد، فالتقدم التقني اقتصر على الدول الغنية التي أصبح الإنسان فيها أسيراً للآلة وجزءاً لا يتجزأ من نظامها».