رمضان جريدي العنزي
التصنيفات الطبقية الجاهلية، والغلو الفاحش في المذاهب، والتدليس الممجوج في الإنكار، مفاهيم مخيفة لا ترتقي لمصاف الفهم والوعي، ووصلات ردح لا ترتقي للذائقة القويمة، مصطلحات قاصرة أنتجت فقاعات اجتماعية تشبه رغوة الصابون، حطب مستعر ناره (الهياط) الكثيف، لن ترتقي أمة ديدنها التصنيف والغلو والمحاباة، كونها عناوين بارزة للنكوص والتخلف، الأرض السبخة المالحة لا نبت فيها ولا شجر ولا تنتج حتى الرديء من الثمر، إن الإفراط في هذه (المخمليات) يعتبر ضعفًا وليس قوة، وهنا وليس صلابة، كسرًا وليس جبرًا، هذه التصنيفات الغبراء تؤثر على حياة (المصنف) نفسه ومدى علاقته بالآخرين، أن الخلق جميعهم واحد، أصلهم طين لازب، فالكل في هذه الحياة يؤدي دوره الذي خُلق من أجله وأتومن عليه، وهو الإخلاص في العبادة والجد والتفاني في الأداء والعمل، مهما اختلف اللون والشكل والهيئة والعرق والمنبت، للإنسان أيًا كان هذا الإنسان حقوق وعليه واجبات، في شريعتنا الإسلامية السمحة لا يوجد محاباة ولا محسوبية ولا ضمائر ميتة ولا غش ولا فساد ولا تدليس ولا همز ولا لغو ولا نميمة، فالكل سواء أمام القانون الإلهي، أن للجميع أحقية في الكرامة الإنسانية، في الاحترام والتقدير وعدم الازدراء والتحقير، مبدأ أرساه نبينا الأكرم محمد بن عبدالله -صلى الله عليه وسلم، بقوله: (المسلمون ذمتهم واحدة ويسعى بذمتهم أدناهم، ومن حقر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)، إن التنازع واللغو المبين والدونية والازدراء إهلاك للحياة، ورجعية وتخلف ونكوص، ومهاترات خائبة بحثًا عن البروز والخروج شرنقة الزيف، وباطن القاع، في حجة الوداع أعلن رسولنا الأكرم -صلى الله عليه وسلم- أول ميثاق متكامل لحقوق الإنسان أينما كان، نظم فيه المعالم الفاصلة بين الحق والواجب والمأمور به والمنهي عنه، حدد العلاقات الاجتماعية والدولية وأعاد ضبطها، ولفظ كل عقد الجهل والتجهل والعصبية وإتباع الهوى، بعيدًا عن الإفراط والتفريط، أن رسولنا الأكرم قد بلغ في خطبة الإنسانية جمعاء وأبان لهم في بيان حكيم ولسان فصيح وتلا عليهم (يا أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا عجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ألا هل بلغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: فليبلغ الشاهد الغائب)، إنه ميزان العدل الإلهي، والانون الثابت المجيد، الذي أقره العلي القدير، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}، إن اللغو الزائف في المفاهيم والألقاب والمسميات، والتهاتف على خرافات عنصرية لا أساس لها ولا دليل ولا برهان، يعد خرقًا للحقيقة والصواب، أن النزعات المرجفة ميراث قاصر مبني على نرجسية مصطنعة، وتمايز يجانب التعليمات السماوية الواضحة ويخالفها، وليس لها دليل واقعي مقنع، اللهم إلا تماجد شخصي وفئوي ذاهب في مهب الريح، وعلى هذا المعنى تشربت كثير من النفوس معنى الكبر والتكبر والتسامي بلا سبب يوجب ذلك، ومهما ابتغي الإنسان التميز بغير التقوى وحسن التدين وقوة الإيمان وسلامة الضمير ونقاء النفس ورقي الأخلاق، فإنه لن يظفر بمبتغاه لا عند الله - جل في علاه - ولا عند العقلاء والأتقياء من عباد الله، لقد تزوج رجل من الأنصار امرأةً فطُعِن عليها في حسبها، فقال الرجل: إني لم أتزوجها لحسبها إنما تزوجتها لدينها وخلقها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يضرك ألا تكون من آل حاجب بن زرارة) ثم قال عليه الصلاة والسلام (إن الله تبارك وتعالى جاء بالإسلام فرفع به الخسيسة وأتم به الناقصة وأذهب به اللوم فلا لوم على مسلم إنما اللوم لوم الجاهلية)، إن المتفاخر بالذات والفئة قد يكون ذا عمل وفعل وتصرف لا يليق به ولا بفئيه، بل قد يكون نكالا وبلاءً على جميع أسلافه وفروعه، لقد ندد صلى الله عليه وسلم بهذا الصنيع وتوعد صانعيه بالصغار حيث قال: (لينتهين أقوامٌ يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا، إنما هم فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعل الذي يدهده الخرء بأنفه، إن الله أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمنٌ تقيٌّ، أو فاجرٌ شقيٌّ، الناس كلهم بنو آدم، وآدم خلق من التراب)، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان يوم القيامة أمر الله مناديًا ينادي: ألا إني جعلت نسباً، وجعلتم نسباً، فجعلت أكرمكم أتقاكم، فأبيتم، إلا أن تقولوا: فلانٌ بن فلانٍ خيرٌ من فلانٍ بن فلانٍ، فاليوم أرفع نسبي وأضعُ نسبكم، أين المتقون)، إن المتعالين بالأنساب والأحساب والمال والجاه على حساب الخلق والدين والتقوى، منتفخون بالوهم والتوهم ولا يعيشون الواقع، قال أمر المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
كن ابن منْ شئت واكْتسِبْ أدباً
يغنيك محمودُهُ عن النسبِ
إِنَّ الفَتى من يقولُ هَا أنا ذَا
ليْسَ الفَتَى منْ يقولُ كَانَ أبي
اللهم بصر قلوب المتعصبين واهدهم وارفع عنهم أصرهم وفك قيدهم من الأغلال الفكرية المقيتة التي كبلت عقولهم وأعتمت نفوسهم بعيدًا عن نور الحق وضوء الصواب وأبعدهم عن الرواسب التي أوهنتم طويلاً وأعدهم إلى الطريق القويم الذي يأخذهم نحو مسارات الضوء والنهوض والازدهار وبريق الإيمان بعيدًا عن جمود العلم والعقل وعقبات الفهم ومصدات التبصر والإصرار، اللهم وأبعدهم عن اللغو المبين والعصبية النتنة والتفاخر الجاهلي المقيت الذي يشبه إعجاز النخل ولون الفحم والسراب.