ثار الليبيون عام 2011 ضد نظام معمر القذافي الاستبدادي، وأسقطوه بمساعدة حلف الناتو، وتطلعوا إلى قيام عهد جديد، يقوم على أسس مبادئ العدل والحرية والحكم الرشيد، ولكن - للأسف الشديد - غرقت ليبيا في بحر من الفوضى والدمار والاقتتال الأهلي لأسباب داخلية وخارجية، لسنا هنا بصدد الحديث عنها، وإنما نقول في عبارة موجزة عامة «فتش عن الجماعة التي تطلق على نفسها اسم (الإخوان المسلمون)؛ فهي لا تتوغل في بلد إلا أفسدته وخربته، وجعلت أهله شيعًا متناحرين، وهيأت الأسباب للتدخلات الأجنبية».
موضوع هذا المقال ينحصر في بيان مدى شرعية حكومة فايز السراج التي تسمى (حكومة الوفاق)، ويشار إليها في معظم وسائل الإعلام بأنها الحكومة المعترف بها دوليًّا على سند من القول إن هيئة الأمم المتحدة اعترفت بها. وبناء على ذلك تعتبر هذه الحكومة - من وجهة نظر المؤيدين لها - الحكومة الشرعية التي لها سلطة إدارة البلاد، وتمثيلها في الخارج، بينما يرى المعارضون أنها حكومة غير دستورية؛ وبالتالي ليس لها أي شرعية؛ لأنها لم تنل موافقة مجلس النواب. فأي الطريقين على حق؟
نرجع إلى الوثائق ذات الصلة في هذا الشأن. الوثيقة الأولى الاتفاق السياسي الليبي المبرم بتاريخ 17 ديسمبر 2015م في مدينة الصخيبرات بالمغرب، ووقّعه معظم أطراف الصراع في ليبيا تحت رعاية هيئة الأمم المتحدة بإشراف مبعوثها إلى ليبيا (مارتن توبلر) لإنهاء الحرب الأهلية في البلاد، ووضع الترتيبات لمرحلة انتقالية. ويتكون هذا الاتفاق من مبادئ حاكمة و67 مادة أساسية، لسنا هنا بصدد بيان تفصيلات أحكامها، وإنما يهمنا الإشارة إلى ما يأتي:
أولاً - أن الاتفاق قرر في الفقرة الـ(10) من المبادئ الحاكمة أن مجلس النواب هو السلطة التشريعية الوحيدة في البلاد خلال الفترة الانتقالية. كما نصت المادة الـ(12) من الاتفاق على أن يتولى السلطة التشريعية للدولة خلال المرحلة الانتقالية مجلس النواب المنتخب في يونيو 2014، ويمارس صلاحياته وفقًا للإعلان الدستوري وتعديله وفقًا لهذا الاتفاق. وحددت المادة الـ(13) صلاحيات مجلس النواب بصفة عامة، منها (منح الثقة لحكومة الوفاق الوطني وسحبها وفقًا لبنود هذا الاتفاق).
ثانيًا - قرر الاتفاق إنشاء حكومة تسمى (حكومة الوفاق الوطني)، حدد صلاحياتها كما حددت الفقرة الـ(4) من المادة الأولى مدة ولاية الحكومة بعام واحد، يبدأ من تاريخ نيلها ثقة مجلس النواب، وفي حال عدم الانتهاء من إصدار الدستور خلال ولايتها يتم تجديد تلك الولاية تلقائيًّا لعام إضافي فقط. وفي جميع الأحوال تنتهي ولاية الحكومة مباشرة فور تشكيل السلطة التنفيذية بموجب الدستور الليبي أو انقضاء المدة المحددة لها أيهما أقرب. وقررت المادة الثانية أن يراعَى في تكوين حكومة الوفاق الوطني مبدآ الكفاءة وعدم التمييز، والأخذ في الاعتبار البعد الجغرافي والمكونات الثقافية والتمثيل العادل للمرأة والشاب. ثم قررت المادة الثالثة أن يقدم رئيس مجلس الوزراء خلال مدة أقصاها شهر من إقرار هذا الاتفاق قائمة كاملة متوافق عليها بأعضاء حكومة الوفاق الوطني وبرنامج عملها لمجلس النواب لاعتمادها بالكامل، ومنحها الثقة، واعتماد برامجها وفقًا للإجراءات المقررة خلال مدة لا تتجاوز عشرة أيام من تاريخ تقديمها للمجلس.
الوثيقة الثانية ذات الصلة هي قرار مجلس الأمن الدولي رقم (2259)، وتاريخ 23 ديسمبر 2015، بشأن الاتفاق السياسي الليبي؛ إذ صدر هذا القرار بعد 6 أيام من تاريخ توقيع الاتفاق السياسي الليبي، أي قبل أن تستكمل حكومة الوفاق تكوينها أو مسوغات وجودها القانوني، وقبل حصولها على ثقة مجلس النواب، وقبل أن تباشر فعلاً شؤون الحكم؛ وبالتالي قبل أن يتبيّن مدى قدرتها على النهوض بمسؤولياتها تجاه شعبها، ومدى قدرتها على الوفاء بالتزاماتها تجاه المجتمع الدولي.
وبالرجوع إلى هذا القرار لا نجد نصًّا يتضمن الاعتراف الصريح بحكومة الوفاق، وإنما نجد ما يأتي:
1 - أنه يرحب بالتوقيع على الاتفاق السياسي الليبي الموقع يوم 17 ديسمبر 2015 في الصخيبرات بالمغرب من أجل تشكيل حكومة وفاق وطني، تتشكل من مجلس رئاسي وحكومة بدعم من مؤسسات الدولة الأخرى، بما في ذلك مجلس النواب ومجلس الدولة.
2 - يرحب بتشكيل المجلس الرئاسي، ويدعوه إلى العمل بشكل متسارع في إطار الثلاثين يومًا المنصوص عليها في الاتفاق السياسي لتشكيل حكومة الوفاق الوطني، وللانتهاء من الترتيبات الأمنية اللازمة لتحقيق الاستقرار في ليبيا. ويدعو في هذا الصدد الدول الأعضاء إلى الاستجابة بشكل عاجل للطلبات المقدمة منها لتقديم المساعدة.
مما سبق يتضح أن قرار مجلس الأمن لم يتضمن نصًّا الاعتراف الصريح بحكومة الوفاق الوطني؛ لأنها عند صدور القرار لم تكن قد تكونت؛ وبالتالي لم تنل ثقة مجلس النواب، وإنما نص القرار على الترحيب باتفاق الصخيبرات. صحيح أن الفقرة الثامنة من القرار أكدت أهمية أن تمارس حكومة الوفاق الوطني السيطرة والتخزين الآمن للأسلحة في ليبيا بدعم من المجتمع الدولي، كما أن الفقرة التاسعة دعت حكومة الوفاق إلى حماية تماسك ووحدة شركة النفط الوطنية والبنك المركزي الليبي وهيئة الاستثمار الليبية، وأن تقبل هذه المؤسسات بسلطة حكومة الوفاق الوطني، كما أن هناك نصوصًا أخرى في القرار تؤكد أهمية دور هذه الحكومة في استقرار ليبيا، وحث الدول الأعضاء على تقديم المساعدة لها، إلا أن ذلك كله - في تقديري - مشروط بتكوين حكومة الوفاق خلال مهلة الثلاثين يومًا المحددة في الاتفاق، وأن تنال ثقة مجلس النواب، وهذا لم يحصل؛ فمجلس النواب امتنع عن منح هذه الحكومة الثقة؛ لأنه قدر أنها لم تتكون من جميع أطياف المجتمع كما نص على ذلك الاتفاق، وأنها تتكون أساسًا من ممثلي اتجاه سياسي واحد، هو جماعة (الإخوان المسلمين) وما تفرع عنها من جماعات أخرى.
وترتيبًا على ما سبق يمكن القول إن الادعاء بأن حكومة الوفاق تحظى بشرعية دولية هو ادعاء غير صحيح؛ ولذلك فإنه لا مناص من تكوين حكومة جديدة، يرضى عنها جميع أطراف الصراع كما دعت إلى ذلك المبادرة المصرية، بل بات المجتمع الدولي غير مقتنع بشرعية حكومة السراج؛ إذ دعا مؤتمر برلين الذي انعقد في 19 يناير 2020م إلى تشكيل مجلس رئاسي فاعل، وتشكيل حكومة ليبية واحدة موحدة وشاملة وفعالة، يصادق عليها مجلس النواب.
تجدر الإشارة إلى أن حكومة السراج ليست حكومة منتخبة. والغريب أن مبعوث الأمم المتحدة الخاص بليبيا أعلن في 08 أكتوبر 2015 اختيار السراج رئيسًا لحكومة الوفاق، أي إنه أعلن اختياره قبل شهرين وتسعة أيام من توقيع اتفاق الصخيبرات. وهذا يعني أن اختيار السراج لم يكن نتيجة اتفاق الصخيبرات وإنما كان سابقًا عليه؛ وبالتالي فإنه لا يستقيم في المنطق القانوني القول إن اختيار السراج يستمد شرعيته من الاتفاق المذكور.
** **
خالد أحمد عثمان - محامٍ ومستشار قانوني