إعداد - خالد حامد:
عادة ما تكون للأزمات الكبرى عواقب وخيمة، وفي معظم الأحوال تكون تلك العواقب غير متوقعة. على سبيل المثال، فقد حفز الكساد الكبير عام 1929م النزعات الانعزالية والقومية والفاشية وأدى في نهاية الأمر إلى نشوب الحرب العالمية الثانية - لكنه أدى أيضًا إلى صعود الولايات المتحدة كقوة عظمى، وإلى إنهاء الاستعمار في معظم دول العالم.
وبالمثل، أدت هجمات الحادي عشر من سبتمبر إلى تدخلين أمريكيين فاشلين، بالإضافة إلى ظهور أشكال جديدة من التطرف. كما أدت الأزمة المالية في عام 2008 إلى زيادة الشعبوية المعادية للمؤسسات والتي حلت محل القادة في جميع أنحاء العالم.
سوف يقتفي المؤرخون في المستقبل الآثار الكبيرة التي تسبب بها وباء كورونا الحالي؛ وسيكمن التحدي الأهم في نجاحهم في اكتشاف تلك الآثار في وقت مبكر.
من الواضح أن أداء بعض البلدان في التعامل مع هذه الجائحة أفضل من غيرها في التعامل حتى الآن. ويمكننا القول إن العوامل المسؤولة عن الاستجابة الناجحة للجائحة تكمن في قدرة الدولة والثقة الاجتماعية والقيادة. ففي الدول التي تضم العناصر الثلاثة: جهاز دولة مختص، وحكومة يثق بها المواطنون ويستمعون إليها، وقادة فاعلون - كان أداء تلك الدول مثير للإعجاب، مما حد بشكل كبير من الضرر الذي لحق بهم. في حين كان أداء الدول ذات الاختلالات الوظيفية، والمجتمعات المستقطبة سيئًا، مما ترك مواطنيها واقتصاداتها مكشوفة وضعيفة.
كلما زادت معرفتنا بجائحة كورونا، كلما بدت الأزمة طويلة الأمد، ليتم قياسها بالسنوات بدلاً من الشهور. قد يبدو الفيروس أقل فتكًا مما كان يُخشى، ولكنه معدي جدًا وغالبًا ما ينتقل دون أعراض. مقارنة بكورونا، فإن الإيبولا مميت للغاية ولكن يصعب التقاطه. يموت الضحايا بسرعة، قبل أن يتمكنوا من نقله. في حين أن كوفيد 19 هو عكس ذلك، مما يعني أن الناس لا يميلون إلى التعامل معه بجدية كما ينبغي، ولهذا انتشر هذا الفيروس وسيستمر في الانتشار على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم، مما سيتسبب في حدوث أعداد كبيرة من الوفيات. لن تكون هناك لحظة تكون فيها الدول قادرة على إعلان النصر على المرض؛ بدلاً من ذلك، ستفتح اقتصادات الدول ببطء بسبب الخوف من موجات العدوى اللاحقة، ولن يعود الاقتصاد العالمي إلى حالته السابقة على الجائحة في أي وقت قريب.
من الناحية الاقتصادية، ستعني الأزمة إذا طال أمدها المزيد من إخفاقات الأعمال والدمار للصناعات مثل مراكز التسوق وسلاسل البيع بالتجزئة والسفر بعد أن كانت مستويات تركيز السوق في الاقتصاد الأمريكي ترتفع بثبات لعقود. فقط الشركات الكبيرة ذات الوضع المالي القوي ستكون قادرة على الخروج من هذه العاصفة، وسيحقق عمالقة التكنولوجيا من الشركات مكاسب أكثر من غيرها، حيث أصبحت التفاعلات الرقمية أكثر أهمية من أي وقت مضى.
قد تكون العواقب السياسية لهذه الجائحة أكثر أهمية. يمكن استدعاء السكان للقيام بأعمال بطولية وللتضحية بالنفس لبعض الوقت، ولكن ليس إلى الأبد. إن الوباء الذي يضرب العالم حاليا والمقترن بفقدان الوظائف، والركود الطويل، وعبء الديون غير المسبوق سيخلق حتمًا توترات ستتحول إلى ردود فعل سياسية - ولكن ضد من؟ لم يتضح هذا الأمر بعد.
لقد أخطأت الولايات المتحدة في رد فعلها بشكل سيئ وشهدت هيبتها تراجعا هائلا.
سيستمر التوزيع العالمي للسلطة في التحول نحو الشرق، حيث كان أداء دول شرق آسيا أفضل في إدارة الوضع من أوروبا أو الولايات المتحدة. على الرغم من أن الوباء نشأ في الصين إلا أن بكين على الأرجح ستستفيد من الأزمة، على الأقل نسبيًا. كان أداء الحكومات الأخرى في البداية ضعيفًا وحاولت إخفاءه أيضًا بشكل أكثر وضوحًا على الرغم من العواقب الوخيمة على مواطنيها. وتمكنت بكين، على الأقل، من استعادة سيطرتها على الوضع وانتقلت بعد ذلك إلى التحدي التالي لعودة اقتصادها إلى التسارع على نحو مستدام.
على النقيض من ذلك، أخطأت الولايات المتحدة في رد فعلها بشكل سيئ وشهدت هيبتها انزلاقًا هائلاً. الولايات المتحدة كدولة تتمتع بقدرات هائلة وقد راكمت سجلاً مثيرًا للإعجاب خلال الأزمات الوبائية السابقة، لكن الوضع الحالي يشهد مجتمعا شديد الاستقطاب منع الدولة من العمل بفعالية. لقد تسبب الرئيس ترامب في المزيد من الانقسام بدلاً من تعزيز الوحدة، وقام بتسييس توزيع المساعدات، وألقى بالمسؤولية على الحكام لاتخاذ قرارات رئيسة بينما شجع الاحتجاجات ضدهم لحماية الصحة العامة، وهاجم المؤسسات الدولية بدلاً من تحفيزها. وقد وقف العالم يراقب من خلال شاشات التلفاز كل هذا في حالة «ذهول».
على مدى السنوات القادمة، يمكن أن يؤدي الوباء إلى التراجع النسبي للولايات المتحدة، كما سيؤدي إلى التآكل المستمر للنظام الدولي الليبرالي، وعودة الفاشية في معظم أنحاء العالم. كما يمكن أن يؤدي أيضًا إلى إعادة بعث للديمقراطية الليبرالية، وهي النظام الذي أربك المتشككين عدة مرات. لسوء الحظ، ما لم تتغير الاتجاهات الحالية بشكل كبير، فإن التوقعات المستقبلية تبدو قاتمة.
لقد تزايدت النزعات القومية والانعزالية وكره الأجانب، والهجمات على النظام العالمي الليبرالي لسنوات قبل أن تضرب جائحة كورونا العالم. أظهرت جائحة كورونا حجم المعوقات لحركة الناس في كل مكان، بما في ذلك داخل قلب أوروبا. وبدلاً من أن يعملوا بشكل بناء من أجل مصالحهم المشتركة، انكفأت الكثير من الدول على نفسها وجعلت من خصومها كبش فداء لفشلها.
إن صعود تيار القومية سيزيد من احتمال نشوب النزاعات الدولية. فقد يرى بعض القادة المعارك مع الأجانب على أنها وسيلة إلهاء سياسية ومحلية مفيدة، أو قد يغريهم ضعف أو انشغال خصومهم للاستفادة من انتشار الوباء بخلق حقائق جديدة على الأرض.
ومع ذلك، وبالنظر إلى استمرار قوة الاستقرار للأسلحة النووية والتحديات المشتركة التي تواجه جميع اللاعبين الرئيسيين، فإن الاضطراب الدولي أقل احتمالا من الاضطراب المحلي.
سوف تتضرر البلدان الفقيرة ذات المدن المزدحمة وأنظمة الصحة العامة الضعيفة بشدة. ليس فقط بسبب تعليمات التباعد الاجتماعي بل لأن حتى النظافة البسيطة مثل غسل اليدين أمرًا صعبًا للغاية في البلدان التي لا يحصل فيها كثير من المواطنين بانتظام على المياه النظيفة. وكثيرا ما جعلت بعض الحكومات الأمور تسوء أكثر - سواء عن طريق التحريض على التوترات الطائفية وتقويض التماسك الاجتماعي. على سبيل المثال، زادت الهند من ضعفها بإعلان إغلاق مفاجئ على الصعيد الوطني دون التفكير في العواقب على عشرات الملايين من العمال المهاجرين من القرى الذين يتجمعون في كل مدينة كبيرة مما أدى إلى ذهاب الكثير منهم إلى منازلهم الريفية ليتسببوا في نشر المرض في جميع أنحاء البلاد؛ بمجرد أن عكست الحكومة موقفها وبدأت في تقييد الحركة، وجد عدد كبير منهم أنفسهم محاصرين في المدن بدون عمل أو مأوى أو رعاية.
كان النزوح الناجم عن تغير المناخ بالفعل أزمة بطيئة الحركة في جنوب العالم، وسيضاعف الوباء من آثار تلك الأزمة، مما يجعل أعدادا كبيرة من السكان في البلدان النامية يعيشون في حالة أقرب إلى حافة الكفاف.
لقد حطمت الأزمة آمال مئات الملايين من الناس في البلدان الفقيرة الذين استفادوا من عقدين من النمو الاقتصادي المستدام. سيسعى اليائسون منهم إلى الهجرة وستقابل الموجة الجديدة من محاولات الهجرة من الجنوب العالمي إلى الشمال بتعاطف أقل ومقاومة أكبر هذه المرة، حيث يمكن اتهام المهاجرين بجلب الأمراض والفوضى.
وكما أن الكساد الكبير لم ينتج الفاشية فحسب، بل أعاد تنشيط الديمقراطية الليبرالية أيضًا، فقد ينتج عن هذا الوباء بعض النتائج السياسية الإيجابية أيضًا. غالبًا ما كانت تؤدي الصدمات القوية في كثير من الأحيان لكسر الأنظمة السياسية المتصلبة وتخلق ظروفا مواتية للإصلاح الهيكلي الذي طال انتظاره.
لقد ألقى الوباء ضوءًا ساطعًا على المؤسسات القائمة في كل مكان، وكشف النقاب عن نقاط ضعفها ونقاط قوتها. كما عمقت الأزمة الفجوة بين الأغنياء والفقراء، سواء بين الناس أو البلدان، وسوف تزداد حدة هذه الأزمة من خلال ركود اقتصادي طويل الأمد. ولكن إلى جانب المشاكل، كشفت الأزمة أيضًا عن قدرة الحكومة على توفير الحلول، بالاعتماد على الموارد الجماعية.
إن الإحساس المستمر لكلمة «معًا» يمكن أن يعزز التضامن الاجتماعي ويقود تطوير المزيد من الحماية الاجتماعية السخية، تمامًا مثلما حفزت المعاناة الوطنية المشتركة للحرب العالمية الأولى والكساد الكبير من نمو دول الرفاهية في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين.
هذا التوجه قد يضعف من الأشكال المتطرفة لـ (الليبرالية الجديدة)، وإيديولوجية السوق الحرة التي ابتكرها اقتصاديون من جامعة شيكاغو مثل غاري بيكر، ميلتون فريدمان، وجورج ستيغلر. خلال الثمانينيات، قدمت مدرسة شيكاغو تبريرًا فكريًا لسياسات الرئيس الأمريكي رونالد ريجان ورئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر، اللذين اعتبرا أن الحكومة الكبيرة المتطفلة تشكل عقبة أمام النمو الاقتصادي والتقدم البشري. في ذلك الوقت، كانت هناك أسباب وجيهة لخفض العديد من أشكال الملكية والتنظيم الحكومي. لكن الحجج ترسخت في ليبرالية تم فيها غرس العداء لعمل الدولة في جيل من المثقفين المحافظين، وخاصة في الولايات المتحدة.
وقد تؤدي الأزمة في نهاية المطاف إلى تجديد التعاون الدولي. بينما يلعب القادة الوطنيون لعبة اللوم، يقوم العلماء ومسؤولو الصحة العامة حول العالم بتعميق شبكاتهم وعلاقاتهم. إذا أدى انهيار التعاون الدولي إلى كارثة وحُكم عليه بالفشل، فإن الحقبة التي تلي ذلك يمكن أن تشهد التزامًا متجددًا بالعمل على نحو متعدد الأطراف لتعزيز المصالح المشتركة.
لقد كان الوباء اختبارا سياسيا عالميا. سوف تتجاوز الدول ذات الحكومات الشرعية والقادرة بشكل جيد نسبيًا هذه الأزمة وقد تتبنى إصلاحات تجعلها أقوى وأكثر مرونة، وبالتالي تسهيل أدائها المستقبلي. ولكن البلدان ذات القدرة الضعيفة أو القيادة الضعيفة ستكون في وضع صعب، وستمر بحالة ركود، إن لم يكن فقر وعدم استقرار. المشكلة هي أن المجموعة الثانية تتفوق على المجموعة الأولى عددا بشكل كبير.
لسوء الحظ، كان اختبار الإجهاد صعبًا جدًا لدرجة أنه من المحتمل أن ينجح القليل جدًا في اجتيازه. للتعامل مع المراحل الأولى من الأزمة بنجاح، لم تكن البلدان بحاجة إلى الدول القادرة والموارد الكافية فحسب، بل أيضًا إلى قدر كبير من التوافق الاجتماعي والقادة الأكفاء. تمت تلبية هذه الحاجة من قبل دول مثل كوريا الجنوبية، التي أوكلت مهمة إدارة هذا الوباء إلى البيروقراطية الصحية المهنية، وقامت بالأمر نفسه أنجيلا ميركل في ألمانيا.
سبب آخر للتشاؤم هو أن السيناريوهات الإيجابية تفترض نوعًا من الخطاب العام العقلاني. ومع ذلك، فإن العلاقة بين الخبرة التكنوقراطية والسياسة العامة أضعف اليوم مما كانت عليه في الماضي، عندما كانت النخب تمتلك المزيد من السلطة. لقد أدت دمقرطة السلطة بتحفيز من الثورة الرقمية إلى تسطيح التسلسل الهرمي المعرفي إلى جانب التسلسلات الهرمية الأخرى.
وأكبر متغير يمكننا رصده هو الولايات المتحدة. كان من سوء الحظ الفريد للبلاد أن تشهد خلال تلك الجائحة مثل هذه الانقسامات في تاريخها الحديث وعلى رأس السلطة عندما ضربت الأزمة كان هناك رئيس مثير للجدل، ولم يتغير أسلوب حكمه تحت الضغط بعد أن أمضى فترة ولايته الأولى في حالة حرب مع الدولة التي يرأسها. بعد أن رأى أن أفضل ما يخدم رصيده السياسي هو المواجهة بدلاً من الوحدة الوطنية، فاستخدم الأزمة في خوض المعارك وزيادة الانقسامات الاجتماعية. إن إجراء انتخابات رئاسية في الولايات المتحدة خلال شهر نوفمبر المقبل خلال جائحة كورونا سيكون أمرا صعبا، وستكون هناك حوافز للخاسرين الساخطين للطعن في شرعيتها. حتى لو استولى الديمقراطيون على البيت الأبيض وكلا مجلسي الكونغرس، فإنهم سيرثون دولة تعاني من حالة استقطاب. وستكون المؤسسات الوطنية والدولية ضعيفة ومترنحة بعد سنوات من سوء المعاملة، وسوف يستغرق الأمر سنوات لإعادة بنائها - إذا كانت لا تزال ممكنة على الإطلاق.
مع مرور أكثر مراحل الأزمة صعوبة، سينتقل العالم بعد ذلك إلى ضغوط طويلة محبطة. ستخرج منه في نهاية الأمر، بعض الدول بشكل أسرع من غيرها. وقد أثبتت الديمقراطية والرأسمالية والولايات المتحدة جميعها قدرتها على التحول والتكيف من قبل، فهل ستنجح هذه المرة.
* عالم وفيلسوف وسياسي وأستاذ جامعي أميركي من أصول يابانية.
اشتهر بكتابه «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» الصادر عام 1992، الذي جادل فيه بأن انتشار الديمقراطيات الليبرالية والرأسمالية والسوق الحرة في أنحاء العالم قد يشير إلى نقطة النهاية للتطور الاجتماعي والثقافي والسياسي للإنسان.
زميل بمعهد فريمان سبوغلي للدراسات الدولية في جامعة ستانفورد
** **
- فرانسيس فوكوياما