إبراهيم بن جلال فضلون
إسقاط تماثيل، وسحبها وتدمير رأسها أو إسقاط رموز من عروش نصبها التذكارية، ليس وليد المصادفة، بل تقليد يعود إلى قرون مضت. سجلت تواتراً سريعاً عبر أجيالها التي اندثرت ظلماً؛ جراء آفات مُجتمعية سكبها الإنسان المتمرد على حياته في قالب واحد.. أجاد مزجها سرداً ووصفاً أعظم كُتاب العالم ونقاده، وعن الضمير تفجرت بنات أفكارهم في إطار فكري واحد وخطوط تأثير وحدتهم في احتقار فكرة الضمير ذلك المسؤول عن الإنسانية كونها مثار للعنصرية والتنمر في صورة التحيز الجاهل، والمنع غير المدروس، ظاهرها أنه مدافعًا كريمًا عن المبادئ الأخلاقية العامة التي أمرنا الله بها، وصار ذلك الضمير عبئًا اخترعناه وفرضناه على أنفسنا وصار الإجماع الاجتماعي المستنير عليه قوة بطش تُمليه علينا تأثيرات خارجية مُستبدة أو زائفة، أضفينا عليها صفة ذاتية، أدت إلى ضمير بلا قلب!!
ذلك الإحساس انتابني عندما ترجمت رواية تولستوي للعبيد ضمير (لعنة الأموال) عام 2010م، وما لسطوة المال من إثم يجرهُ على الناس، ليكون بقدر الله هناك (السيد والمسود) مُغيرين سماحة الإسلام ومساواته بين بلال الحبشي وصهيب الرومي، ومُبدلاً عبادة الأصنام بعبادة الله الواحد، غير أن النفس البشرية عادت لعبادة المال وتمجيد الأصنام والتماثيل في كل مكان بالغيرة والتملق والتزلف والكذب والواسطة والغرور، ليجري سائل العبودية في العروق، ممتزجاً بالدمع، والعرق، وعصارة الحياة.. التي نراها بالإسراف في إراقتها ليزدادوا انسياقاً وراء لهوهم وعبثهم، ليُغرق العبيد أنفسهم خلاصاً منهم، لكي ينسوا.. ينسوا كل شيء! فهي صورة لحياة ربما شهدتها أجيال كثيرة خاصة البلاد الغربية، وهي تحرك أقسى القلوب الإنسانية صلابة، وتعلي من قدر الكرامة والعزة البشرية التي كانت كامنة تحت مظاهر الذل والاستكانة، ليفتح الضمير نيرانه على التاريخ المظلم له بحضارات عدة، فتحت العنصرية معركتها النائمة على صانعي التماثيل وأمواله في كل بقاع الأرض وأولهم بريطانيا وأميركا وفرنسا، في نذير شؤم عليم بمقتل «فلويد»، ممتداً من الإثنيات الأخرى، إلى تاريخ العبودية، وما رافقه من مآسٍ وما خلفه من ممارسات تحيا بحُب المال الذي يمتلكه 1 % من العالم وكأنه سرطان سري بجسد المستعمر، ليُحول المتظاهرون أنظارهم وغضبهم نحو تماثيل ترتبط بذلك التاريخ، وحقبة قاتمة في تجارة العبيد والاضطهاد، أو نهب الثروات، والعنف في المستعمرات، ولكن هل هو «طمس للتراث» أم «تصحيح للتاريخ»؟
وكأن فلويد يضغط بركبته على أعناق تماثيل رموز العنصرية حتى صارت «لا تستطيع التنفس»، والمتظاهرون في المدن الأميركية والغربية والأوروبية يقتلعونها، ليصرخ العالم مطالبين على موقع ويب أسموه «أطيحوا العنصريين» ونشر قائمة لـ60 تمثالاً «مستهدفاً» في أنحاء متفرقة من بريطانيا، لينهار معها تماثيل كريستوفر كولومبوس في لندن وليفربول، وأوليفر كرومويل في مانشستر، واللورد كتشنر الذي ارتبط اسمه بالسودان ومصر، وتوماس غاي، صاحب أكبر شركات تجارة العبيد، بل ويسحبونها كإدوارد كولستون في مدينة بريستول ورُميه في المياه، كما رمى وسلب حياة عبيده منذ ق 17عام 1895، ليسقط بعد مرور 125 عاماً على نصبه، وتحديداً في 7 يونيو الجاري على يد نفس سكان المدينة الذين اختاروه، وكرموا الرجل غير المناسب؛ واُزيل سيسيل رودس من مدخل كلية «أورييل»، أحد أبرز رموز حقبة التمدد الاستعماري البريطاني في أفريقيا، روديسيا (زيمبابوي حالياً)، وفي جنوب أفريقيا مستعمرة كيب سابقاً، ليتم التنكيل البلجيكي لتماثيل الملك ليوبولد الثاني، ليُرفع علم الكونغوا مكانه لما فعله في سكانها زمن الاستعمار، مرددين هتافات «قاتل» إشارةً له.
وقد سبق كل هؤلاء تمثال كريستوفر كولومبوس في فنزويلا في أكتوبر 2004، فيما أطاح طلاب غاضبون في جنوب إفريقيا بتمثال للمستعمر سيسيل جون رودس في أبريل 2015، وتماثيل القادة السوفيات في أوكرانيا نهاية 2013، وطاجيكستان في 30 مايو 2011، ورومانيا في مارس 1990، وإثيوبيا في مايو 1991، والمجرفي أكتوبر 1956. ونسف «حركة طالبان» الأفغانية في فبراير 2001 تمثال ضخم لبوذا منحوت داخل واجهة أحد جبال باميان. والسؤال لماذا يتعرض الثوريون والمحتجون الغاضبون للتماثيل؟
معركة إجابتها قد لا تُحسم قريباً؛ وقد يبرد دم فلويد وما أثاره، لكنها تبقى خُطوة «لنفض الاستعمار عن مناهجنا» في إعادة تدوير التاريخ لحُقب لعنات الأموال والاستعمار وما خلفه إرث الماضي من عُنصرية أثارت التنمر ضد السود، ممن سطروا تاريخ العُنصريين بدم راحوا ضحايا له.. فليسقط النخاسون بالعبيد.