تحقيق - حمد الدريهم:
فرضت جائحة»كورونا» آثارها القوية على كوكب الأرض؛ ليشرع الإنسان في الاستعانة بما هو متاح لكي تنتظم الحياة وتسير على الوجه الذي نريد. على المستوى الثقافي، شهدت منصّات البثّ المُباشر عن بعد حراكاً مؤثّراً ونجاحاً لافتاً من خلال الندوات والأمسيات والمحاضرات الثقافية والفكرية التي حضرها الآلاف من أماكن مختلفة وجمعتهم لحظة مباشرة واحدة؛ لتخلق عدة استفهامات: هل نجاحها اللافت سيجعلها متناً وما سِواها من أنشطة ثقافية منبرية تستدعي الحضور ستصبح هامشاً أم أن لألق الحضور ألفة القرب هيمنته على أرواحنا؟ و هل ستصبحُ مع مرور الأيام رافداً مهمًّا لرفد المدونة الثقافية العربية بالحراك الثقافي الخلاَّق البعيد عن الأطر التقليدية؛ لتخلق واقعاً ثقافياً جديداً أم أنها مجرد بديل مؤقت إثر جائحة؟
د. عبدالرحمن الشقير: قوة ناعمة لتصدير الهوية الاجتماعية والثقافة
كانت تطبيقات التواصل المرئي قبل كورونا تسير باتجاه توسيع انتشارها، وتنبأ علماء الاجتماع بهذا بعد استحواذ مايكروسوفت على تطبيق سكايب بثمانية مليار دولار، وهو مبلغ كبير إلا أنه كان مؤشراً على تنبه شركات الاتصالات إلى تنامي حالات تشتت الأسر في بلدان متعددة بسبب العمل، وهذا ما جعل عالم الاجتماع الألماني أولريخ بك يدرس الظاهرة ويسميها بعنوان كتابه»الحب عن بعد». إضافة إلى تعزيز فكرة العمل عن بعد.
ولكن بعد جائحة كورونا انتقلت وسائل التواصل بين الأهل والأصدقاء وكثير من قطاع الأعمال والدراسة والندوات الثقافية والأمسيات الأدبية إلى تطبيقات التواصل المرئي الجماعي عن بعد بشكل أسرع مما هو مخطط له، وكشفت عن وجود أشخاص في بلدان مختلفة يرغبون في الحضور، فجاءت الندوات عن بعد لتسد فراغاً كبيراً وتزيد من أعداد الحضور والتفاعل الآني، بشكل يدعو للتساؤل: هل ستكون المحاضرات الأدبية عن بعد هي الاتجاه الجديد بعد كورونا؟
الجواب على هذا السؤال يتطلب مزيداً من الوقت، ومزيداً من إثراء الحوار أكثر من حاجتنا إلى إجابة محددة. لأن الجائحة لم تنته ولم ترجع الحياة كما كانت لقياس اتجاه ما يمكن تسميته «الثقافة عن بعد»، ولكن من المؤكد أن الأصل سيعود إلى ما كان عليه، وهو القاعة والتقارب الجسدي والتفاعل المباشر، وتوسيع آفاق الحوار بين الحضور والمحاضر وبين الحضور مع بعضهم البعض بعد انتهاء الندوة أو الأمسية، حيث إن هذه الحوارات الجانبية تعتبر من تقاليد عقد الندوات والأمسيات، إضافة إلى توحيد العقل الجمعي بالإنصات والتركيز داخل القاعة، وهذا عنصر مهم ورئيس، وهو ما لم تحققه الندوات الثقافية والأمسيات الأدبية عن بعد لخضوعها لعملية ضبط الوقت وتحديد المحاور والمداخلات من الجهة المنظمة، ولأن بعض الحضور سيفقد ميزة التركيز لسهولة انشغاله وتشتت انتباهه وهو يستمع منفرداً، إلا أن هذا لن يلغي فكرة»الثقافة عن بعد»؛ لأنها كانت تجربة رائدة، كما أنها معروفة ومعمول بها قبل كورونا ولكن على مستويات محدودة، وقد حققت التجربة الجديدة للثقافة عن بعد كثيراً من أهدافها في التواصل ونشر المعرفة، ولأن نقل الندوات والأمسيات عن بعد رافد مهم، خاصة أنها أسهل في التنظيم وأقل كلفة وأوسع انتشاراً، كما أنها قوة ناعمة لتصدير الهوية الاجتماعية والثقافة، ويمكن قياس تأثيرها كمياً بعدد الحضور ومناطق وجودهم والمداخلات مع ضمانة توثيقها.
فائق منيف: ألغت الحدود بين الساحات الأدبية العربية
لكل وسيلة جمهورها وراغبوها، فالوسائل القديمة لنشر الإبداع والتباحث حوله كمثل الأمسيات المنبرية وحلقات الفكر وصوالين الأدب لا تزال لها عشاقها، ولعلّهم من فئات عمرية أكبر سناً وأكثر حضوراً وتعوداً على مثل هذا النوع من الفعاليات.
أما جيل الشباب فإن الإنترنت هي عالمهم الواقعي وليس فقط الافتراضي، فقد تعوّدوا عبرها على النشر والمتابعة والتواصل، وأي وسيلة لا تمر من خلالها لن تحظى باستقطابهم، لذلك كان أكثر حضور الأمسيات الشعرية والندوات الفكرية الإنترنتية من هذه الفئة، وهي بالمناسبة ليست طارئة أو صنيعة حدث معين كوباء كورونا وإن كان ساهم في زيادة عددها، فهي امتداد لجيل سابق كان يتبادل الخبرات والنصوص والنقد عبر المنتديات الحوارية، وكانوا في شبه قطيعة مع النوادي الأدبية التي كانت حكراً على أعضائها القدامى. ورواد هذه المنتديات أصبح بعضهم نجوماً أدبية في وسائل التواصل الاجتماعي الحالية.
ما يميز الفعاليات الأدبية على فضاء الإنترنت أنها ألغت الحدود بين الساحات الأدبية العربية فأصبح الحضور من كل أقطار أهل الضاد، وهذه الميزة ستساهم في توسيع نجومية وجماهير مبدعين ومبدعات ينتمون لأقطار عانت من التهميش الإعلامي الثقافي على المستوى العربي. فلم يعد المبدع بحاجة النشر في وسائل خارج وطنه أو تسويق نفسه خارجه، بالأمسيات والندوات ليُعرف، فالوسائل الحالية للنشر والتواصل كفيلة بتسويق النصوص الإبداعية المميزة والترويج لصاحبها.
والمستقبل بلا شك سيكون للإنترنت والإنترنتيين، فالزمن لا يعود للوراء، والتقنية وجدت لتتطور لا لتتقهقر، ولن يعود الناس لاستخدام الحمام الزاجل بعد «الواتساب» و»تويتر»، ولن يستبدلوا السيارات بالبغال. والأدب والفكر كذلك لن يترجَّل عن صهوة التقنية ليمتطي ظهر ورق البردي. غير أن وسائل الإيصال القديمة ستظل ما ظل المعتادون عليها والمخلصون لها، لكنها ستكون أيضاً قليلةً كقلتهم. عكس الحضور والجمهور للوسائل الجديدة من الفعاليات الذين بلغت أعدادهم المئات و الألوف.
د. انتصار البناء: الثقافة في معناها الواسع هي تفاعل اجتماعي وتواصل إنساني
هذا الفيروس «كوفيد19» ظاهرة فريدة من نوعها في التاريخ. إنه الفيروس الوحيد الذي امتلك السيطرة على العالم بأكمله في مرحلة تاريخية وحضارية ظنت البشرية فيها أنها أحكمت سيطرتها على الطبيعة فإذا بها تتقهقر وتتخلى عن كثير من الأساسيات والكماليات أملاً في المساهمة في تلاشي الفيروس الذي يواجهها بسرعة التفشي واتساعه.
وكشأن كل المجالات تأثرت الساحة الثقافية بنتائج جائحة كوفيد19 ولفترة ليست بالوجيزة توقف اللقاءات الجماعية والفعاليات الجماهيرية حتى إشعار عودة السلامة الصحية للمجتمعات ولكن مع استطالة الحال كان لا بد من استئناف الأنشطة الثقافية، فاستعانت التكوينات الثقافية بالمنصات الإلكترونية لعقد المحاضرات وتبادل النقاشات فقد رأينا حسابات التكوينات الثقافية تبث برامجها بصورة مباشرة على الانستغرام أو برنامج زوم أو الفايسبوك وتحصد الكثير من التفاعل والتواصل كما قام بعض المثقفين بالبث المباشر عبر حساباتهم الخاصة وفتحوا باب النقاش للعامة في مختلف القضايا.
وقد تكون تلك المنصات ساهمت في حماية النشاط الثقافي من الانقطاع والتقوقع. وربما يكون الوسط الثقافي، العربي تحديداً، من الأوساط الثقافية التقليدية التي لم تفعل التكنولوجيا على نحو كبير ومتنوّع. لكن حالة التجريب التي انخرط الجميع فيها ستفرض الاستخدام المستقبلي في مختلف صوره.
إلا أنني شخصياً من الفئة التي ترى أن الثقافة في معناها الواسع هي تفاعل اجتماعي وتواصل إنساني وسجال مباشر تقرأ فيه وجوه الآخرين وأجسادهم قبل أن تحلل خطابهم الثقافة حضور دائم مؤتمرات كبيرة كالتي نعقدها دائماً وتتفرّع عنها جلسات خاصة وتعارفات ثقافية شخصية اكتشاف البشر وسط الضجيج والأصوات المتداخلة، أنا قلقة على البشرية من الاختباء خلف الكمامات ومن العزلة خلف أسوار الشاشات هذه ليست هي الحياة وما هكذا تتداول الثقافة.
يوماً ما ستنقشع الجائحة وسنستثمر التكنولوجيا في تعزيز وضع الثقافة وفي إثراء اللقاءات الثقافية. لكننا سنلتقي وجهاً لوجه وسنتحاور سنجلس على طاولات مستديرة. وسنختلف في الآراء ونتفق ونتبادل الكتب والإصدارات ونعقد الورش الجماعية.
فالثقافة فعل اجتماع وتفاعل جماعة وحراك جماعي نحو التغيير المجتمعي والاجتماع عن بعد سيحل القطيعة مؤقتاً لكنه لن يصنع ثقافة إنسانية تنبض بالحياة.
د. فوزية أبو خالد: الناس اتجهوا بتلقائية وبحس التوق للآخر
العزيز حمد، تتميّز تحقيقاتك بأنك دائماً تبادر للسؤال على ما تجري العادة أخذه مأخذ المسلّمات.
كأن تسأل نحلة لماذا تصحو الصبح وتبدأ جولة تبادل القبلات مع الزهر؟ أو تسأل فراشة لماذا تحب أن تحوم حول اللهب؟ أو لماذا الشجرة تعشق لبس القمصان الصفراء كلما جاء الخريف؟ أو تسأل فرعونَ متفرعناً على الناس: من سمح له بكل هذا التسلّط والجبروت؟ أو تسأل كيف أدى اكتفاء الناس بشراء ما يحتاجون له فقط إبان الجائحة إلى كساد فاجع في الاقتصاد؟ لذا فبينما نجد أن الناس اتجهوا بتلقائية وبحس التوق للآخر إلى وسائل التقنية الإلكترونية لاختراق العزلة التي فرضتها المقتضيات الطبية والصحية لمقاومة كورونا بالتباعد الجسدي والاجتماعي, وبينما توجه آخرون لتسجيل سبق تقني أو إعادة تفعيل تقنيات كانت أقل شعبية كتطبيق «زووم» و»تليغرام»و»لقاء جوجل «لتتحول إلى محج للفارين من الحجْر, نجدك تحاول أن تسترق السمع والبصر لتسأل عن المستقبل والمصير المتوقع للعلاقات الاجتماعية وتحديداً للمشهد الثقافي بعد هذه التجربة الموسعة للتواصل الثقافي عبر الفضاء الافتراضي. وهو سؤال لا بد أنه يعنينا جميعاً بقدر ما أنه يعني شخصياً كل من قادهم حس المغامرة والرغبة في تحدي وحشة الحجْر مثلي إلى التغلّب على كل رهاب التكنولوجيا واقتحام العالم الافتراضي من بوابة الثقافة، حيث قمت بإطلاق مبادرة»إكسير الشعر» واستضفت من خلالها 25 شاعرة وشاعراً من المملكة ومن العالم العربي عبر ثلاثة لقاءات شعرية مصحوبة بموسيقى عماد محمد ومحمد عبدالباقي وبقراءات نقدية للدكتور سعد البازعي ود. منيرة الغدير ود. حسُن عبود.
وفي ضوء ما تقدَّم فإن سؤالك أعلاه سؤال مرهف عن مصائر الوحشة التي قد يعانيها العالم الافتراضي بعد انحسار الجائحة وانفضاض الناس عنها بعودة العلاقات الاجتماعية ومنصات التعبير الثقافي إلى «ما قد نخاله سابق عهدها», هذا إن كان هناك إمكانية العودة لسابق العهد. وهذا السؤال وأسئلة مماثلة له تعبر في حقيقتها عن «قلق وجودي ضمني أعمق» عن ما الذي يبقى منا وما الذي يتغيَّر فينا وبأي اتجاه ولصالحنا أو ضدنا بعد كل كارثة كونية أو «تحولات كونية» يمر بها البشر أو تجتاح العمران البشري وتتدخل في قطع وتيرة المتعارف عليه من جسور التواصل بين الأفراد بعضهم البعض أو بين المجال الخاص والمجال العام. وقد يكون هناك قلة (وبالتأكيد أنني لست من هذه القلة), ممن يملكون إجابات كاملة أو حتى ناقصة للإجابة على سؤالك أو لطمأنة قلقنا الوجودي حيال العلاقة بأنفسنا وبالآخر. فمن المؤكد أن هناك قلقاً من تفريغ علاقتنا على مستوى اجتماعي، بل وعلى مستوى ثقافي من شحنتها العاطفية والجسدية والحسية عندما نستبدل باللقاءات الافتراضية حضور أمسية شعرية على أرض الواقع نستطيع خلالها لمس أنفاس الشاعر لمس اليد، أو نستبدل بالوسائل التقنية حضور معرض تشكيلي وشم رائحة الألوان المنبعثة من ألوان اللوحة أو نستغني باللقاء الافتراضي عن تضوع خشب المعازف في حفل موسيقي على المسرح. غير أنه مقابل هذا القلق هناك قلق مضاد من أن تسلبنا العودة لأرض الواقع تلك الحريات الصغيرة التي اجترحتها لنا تلك اللقاءات الافتراضية شعراً وموسيقا وحوارات ومحاضرات.
إلا أنني ودون أن أطيل أكثر مما أطلت وقد أطلت لا أملك إلا أن أسجل دهشتي أمام السلطة الشعبية التي انتزعتها اللقاءات الثقافية بالذات لمريدي الثقافة وعشاقها. فصار أمر لقاء ثقافي إرادة إنسانية متاحة لا تحتاج إلى روتين التصريحات ولا إلى تكلفة اللقاءات الرسمية الباهظة. كل ما تحتاجه أرواح تواقة لمقاومة جائحة وباء الكورونا ولسواها من الجوائح، أجارنا الله. وهنا تبرز أهمية صعوبة التنازل عن المكتسبات الصغيرة التي قد نحوزها بشغف ما.
د. فهد العليان: أمر صحي، لكنه لن يكون كفناً للقاءات المنبرية.
حسناً فعلت «الجزيرة الثقافية» -المتميزة دوماً- بطرح هذه القضية وهذا الموضوع؛ ذلك أن الجميع شاهد وتابع الحراك الثقافي واللقاءات المتنوّعة عبر منصات متنوِّعة (عن بعد) خلال الفترة الماضية، وهذه بلا شك لاقت رواجاً كبيراً خلال هذه الأزمة (أزمة كورونا) نتيجة للحظر على مستوى العالم.
في ظني، لا يختلف اثنان على الدور الذي قامت به هذه المنصات من تسهيل إقامة هذه الملتقيات من زاويتين: الأولى ما يتعلّق بالمتحدثين والمشاركين، حيث أتاحت لهم المشاركة وهم في بيوتهم ومكاتبهم فلم يتكلفوا عناء الحضور أو السفر كما يحدث في الأحوال الطبيعية. الثانية: ما يتعلّق بالحضور والمشاهدين، حيث أتاحت لهم كذلك الدخول على هذه المنصات ومتابعة المثقف الذي يطمعون بسماعه ومتابعته في أي مكان من العالم العربي.
ومن خلال تجربة شخصية، فقد شاركت في عدة ملتقيات وندوات خلال الفترة الماضية، ومما أريد الإشارة إليه مشاركتي بتقديم محاضرة بعنوان: «نحو جيل قارئ»، فتفاجأت بعدد الحضور والمداخلات من دول عربية مختلفة، تبادلنا خلالها التجارب والأفكار حول سبل تشجيع القراءة الحرة في عالمنا العربي.
وهنا، أريد التأكيد على أن هذه المنصات التي انطلقت لتملأ الفضاء متحدثين في مجالات مختلفة لن تكون مؤقتة تنتهي مع هذه الجائحة، بل سوف تستمر جنباً إلى جنب مع اللقاءات (المنبرية) التي سوف تبقى لأهميتها ولأنها تناسب حياة الناس وطبيعة علاقاتهم الاجتماعية، بل هي مطلب من ناحية اجتماعية وثقافية. إن ما يحدث - من وجهة نظري - أمر صحي لكنه لن يكون كفناً للقاءات المنبرية.
ولا بد من الإشارة إلى ما يتعلّق بالمحتوى الذي يطرح من خلال هذه المنصات، وما أقصده أن السهولة في إقامة هذه الملتقيات الثقافية يلقي بالعبء الكبير على الجهات الثقافية إلى البحث عن الكيف وليس الكم؛ حيث إن المتلقي سيفرز الطرح الجيد الذي يستحق المتابعة من غيره.
وأخيراً، فإننا سنكون أمام (عوالم) بعد كورونا، وأحد هذه العوالم هو الثقافي بموضوعاته وأساليب طرحه ومثقفيه.