«الجزيرة الثقافية» - حاوره - جابر محمد مدخلي:
حجي جابر، الروائيُّ الإرتريُّ الذي ظهرَ على المشهدِ الثقافيِّ العربيِّ قبيلَ عشرِ سنواتٍ من الآن بروايتِه الأولى سمراويتْ، أي قبلَ عقدٍ كاملٍ مضى. خلالَه نشرَ مرسى فاطمة، ثم لعبةَ المِغزل، ومؤخرًا رغوةَ سوداء.
حجي جابر، الروائي القادمُ من أرض الربيعِ، أرض الحضاراتِ والتاريخِ، أرض السحابةِ المستدامةِ، المحمّلةِ بالمطرِ، والملبدةِ بالغيومِ، والراغبةِ دومًا في مراقبةِ أرضه الخضراءِ، الراميةِ بترابِها ورمالِها وجزرِها في وجهِ بحرٍ واحدٍ، وأربعة أنهارٍ.
جاءَ من بلدٍ كريمٍ أهله منذُ عصرِ التاريخِ. بلدٍ معظمُ أهله يحملونَ الفؤوسَ، ويزرعونَ الأرض، ويذرعونَ البحرَ الأحمر؛ لاستخراجِ خيراتِهِ، وكنوزِهِ الثمينةِ.
هوَ كذلكَ تأثر بهم، لكنَّ فأسَهُ كانَ رقيقًا، هادئًا، عاطفيًا، لا يريقُ الدماءَ بقدرِ ما يريقُ الأحبارَ. وله أرض غيرُ أرضِهم، أرض محايدةٌ دومًا. أرض الأوراق البيضاءِ التي حولها بإبداعه، وغرسِهِ المستمرِ إلى مزارٍ لسيّاحِ القراءةِ الراغبين في التنزُّهِ والغوصِ داخلَ حدودِهِ اللغويةِ الفاتحةِ بحرَها للاستدعاءِ دومًا.
تجلّت قدراتُهُ ومواهبُهُ منذُ أن كان طالبًا وفي سنٍ مبكرةٍ، حيث كان يؤلفُ المسرحياتِ، وينسقُها، ويقدمُها كما لو أنه مؤسسةٌ فنيةٌ لا ككاتبٍ يخوضُ كتابتَها كهاوٍ وكنابغةٍ وراغبٍ في التأثير. وقد قوبِلت جميعُ مسرحياتِهِ الأولى - تلك- بالإشادة، والإعجاب، ونيلِ التقديرِ، والاعتزازِ به كطالبٍ مختلفٍ، ومؤثرٍ في بيئاتِهِ الدراسيةِ، ومسيرتِهِ التعليميةِ، وحياتِهِ المجتمعيةِ.
يبقى الروائيُّ حجي جابر أحد أولئك الذين حملوا إلى إبداعهم، وأعمالهم الروائيةِ حياة خاصة، وجاذبة، وقادرة على التأثير في قارئِها.
فهو روائيٌّ لم يتركِ الحياةَ التي عصرَها وعصرتْهُ خلالَ مسيرتِهِ لهذا الصعودِ، والتصاعدِ السرديِّ في مسيرتِه بل حملها معه، وكذلك لم يتركِ الوطنَ الذي انتمى إليه بل كتبه. ولم يتركِ الإنسان الإرتريَّ البسيطَ الشامخَ بل خلّده. ولم يتركِ الذاكرةَ المخبوءةَ والمأسورةَ بذكرياتٍ معجونةٍ بالتجاربِ بل استدعاها وراح يعجنُها برمزيتِهِ الخاصةِ، وأدواتهِ السرديةِ لتتوالدَ لدى قرائه ومتابعيه والشغوفين بما يكتبه إلى نكهةٍ خاصةٍ.. رغوتُها سوداءُ.
ولأنه كل هذا وأكثر كان للجزيرة الثقافية معه الحوار التالي:
* القدير حجي جابر، ورباعية جاءت بأدب إرتريٍ وطنيٍ باقتدار سردي، وإبداع فني، ولغوي.. كيف خرج كل هذا من روحك أيها الحجي الجميل؟
- أشكر لك عزيزي جابر هذا الإطراء، وهو من حسن ظنك بأخيك. برأيي أن الأعمال الأربعة إنما هي محاولات للتعرف على ذاتي وعلى الحياة من حولي، أكثر منها منجزات مكتملة. برأيي أن الكتابة وسيلة كي نُصبح أشخاصًا أفضل وليست البرهان على ذلك، ولهذا فهي مهما بلغت قدرًا من الجودة تظل باحثة عن خطوة إضافية في رحلة لا تنتهي.
* الروائي القادم من خلف البحر الأحمر بعمر عامين -تقريبًا- الذي عاش طفولته ومراحل شبابه في مدينةٍ على امتداد ذات البحر أيضًا، ثم اتسع له البحر وحمله إلى خليج، ومن ثم إلى بحار ومحيطات أكثر عمقًا واتساعًا.. ألم يئن لإحدى موجات هذا الماء أن تستقر به في الجهة التي كتبها عشقًا وشوقًا معلنًا عليها كامل اللهفة؟
- هذا حلمي الممتد المتجدد، عليه أصحو كل يوم لأقيس مدى اقترابه. إرتريا الوطن المنتظر، ليس لي وحسب بل لملايين الذين لفظتهم الحرب أو الاستبداد عن مدنهم في أسمرا ومصوع وكرن وقندع وعصب إلى آخر المدن الإرترية. إرتريا فرح مؤجل، وشموع مخبوءة وأغانٍ مكتومة، سيأتي اليوم الذي يُطلق العنان فيه لكل هذا.
* هل يشعر حجي الآن بحالة من الامتنان والرضا تجاه قلمه السردي الذي جعله في هذا التوقيت تحديدًا يعيش بين جائزتين مختصتين بالرواية العربية (الشارقة، وكتارا)؟
- أشعر بالرضا لأنني أكتب، بفكرة الاستمرار وليس بمعنى الوصول. وممتن لاهتدائي لسكة الكتابة، لفكرة المشي الطويل المنهك وليس لمعنى التوقف والتقاط الأنفاس. أطارد قمة لا تجيء، ووصولاً لا يتحقق. أطارد الرحلة وليس الوجهة. بهذا تتحقق متعة الكتابة برأيي رغم كل العناء الذي تكتنفه. هذا لا يعني الاحتفاء بكل بقعة ضوء أمر بها في طريقي، فهي تُعينني ولا شك على المشوار.
* قبل حجي جابر كان الأدب الإرتري قائمًا على أسماء معظمهم تخلى عن لغته الأم، ونشر بلغات أجنبية ولم يصل الأدب الإرتري إلى أدبنا العربي على النحو الذي قدمه حجي، وكما لو أنه يعيده لحضنه العربي الأزلي لا ليكتب أعمالاً إبداعية فحسب. وبعد هذا كله، هل يشعر الروائي الذي في داخلك أنه فعل ما كان يتوجب على روائي إرتري آخر أن يفعله قديمًا؟
- الأدب الإرتري تأخر انتشاره لظروف موضوعية كثيرة، أهمها الحرب التي انخرط فيها الجميع إما قتالاً أو تهجيرًا، ثم جاء جيل اصطدم بمخرجات الاستقلال فاحتاج لوقت حتى يفيق من صدمته. ما أقوم به رفقة بقية الكتّاب هو محاولة إعادة الأدب الإرتري إلى مساره من جديد، أسوة بما فعل الأدباء الأوائل. الجيد في الأمر أننا نشهد هذه الأيام توالي الإصدارات الأدبية وهو أمر يُبشّر بمستقبل منتظر.
* بين سمراويتْ روايتك الأولى، ورغوة سوداء روايتك الرابعة ولن تكون بالتأكيد الأخيرة، يتدخل الوطن، والإنسان الإرتري المكافح لبلوغ الحُب تارة، والوطن تارة أخرى، والأمان تارة ثالثة، والاستقرار رابعة؟ هل استقرّ الوطن روائيًا في روح حجي أم ما يزال هناك وطن روائي خامس بأسلوب إبداعيٍ متفرّد وخامس؟
- كما هي رحلة ممتدة كتابيًا، هي كذلك على مستوى الفهم والشعور. فعلاقتي بالوطن تأخذ في كل مرة شكلاً مختلفًا، لأنني وهو، أي الوطن، في حالة حركة دائبة، ربما كي نلتقي في منتصف الطريق. أشعر بي أرى الوطن في كل مرة بصورة ما، دون أن يفقد أو أفقد ملامحي. ولهذا ربما تحضر إرتريا حتى حين لا أكتب عنها، حين أغادر لجغرافيا مختلفة.
* برأيكم ما الذي يلتقطه الكاتب الروائي تحديدًا من الأعمال الروائية العالمية؟ وهل ثمة روايات أثّرت في حجي جابر ولم تستطع مخيلته التخلص منها؟.
- عموم الأدب هو نافذة على أفكار واحتمالات جديدة أمام الروائيين. كل قصة كتبها عبقري في مكان ما من العالم تقود إلى أختها عند عبقري آخر يقرأها. أما عن الأثر من كل قراءة فهو موجود سواء وعينا به أم لا، حيث يتسلل إلى الروح، إلى العقل، ويأخذ شكل صاحبه الجديد روحًا وعقلاً. بالنسبة لي أسماء كثيرة تركت أثرها البالغ على عقلي وروحي، أكثر من أن أحصيها هنا. لذا أميل إلى القول إني أشعر بامتنان لكل صاحب كتاب قرأته.
* كلمة خاتمة لحوارنا الشيق المثمر معكم توجهونها لصحيفتنا الجزيرة وملحقها الثقافي؟
- سعيد بهذه الالتفاتة لتجربتي من قبل صحيفة الجزيرة، وقسمها الثقافي على وجه التحديد. ممتن لاستضافتي.