سهام القحطاني
عندما تقرأ السيرة الذاتية لمي زيادة فإن ثلاث لوحات من حياتها تسيطر على مخيلتك تختصر حياة المرأة التي مثلت فاصلة تاريخية. فتاة مع أبويها تدخل إلى القاهرة، امرأة يحيط بها عشرات الرجال وحياة زاهية بالضجيج، وسيدة داخل تابوت لا يودعها إلى مثواها الأخير سوى ثلاثة رجال.
ليست ما تبدو عليه الصورة دائما هي الحقيقية فخلف بعض الصور حكايات مختلفة ومُخدّشة بالألم.
هكذا تبدو شخصية مي زيادة فهي في العلن حكاية فرح وفي السر حكايات خوف ولعل هذا التناقض هو سبب اكتئابها الدائم.
كان الناس قيمة حماية بالنسبة لها وليس مجرد وجود معنوي، كانت تختبئ من الألم والقلق بين الناس وداخل الناس لتشعر بدفء الحماية سواء في صيغتها الفردية أو الجمعية.
كانت العائلة وجبران خليل وضجيج صالونها ورسائلها مع الأدباء وأنشطتها المختلفة هي حماية تختبئ من خلالها من الألم والخوف والقلق وعندما بدأ هرم الحماية بالتلاشي التدريجي بالموت تارة والبعد تارة وحينها وجدت نفسها وجها لوجه أمام الخوف والألم والقلق الذي كانت تهرب منهم وفي غياب حاجز الحماية التهمها شبح الاكتئاب في نهاية المطاف. ما بين رحلتي التألق الساطع والسقوط اللامع تأطرت أسطورة مي زيادة وهي أسطورة لم تسلم من أشواك الجدلية للفتاة الذي رأى البعض أنها أفسدت المرأة المصرية والعربية ورأى الرأي الآخر أنها النموذج الذي يجب أن تحتذي به المرأة العربية للخروج من كهف الرجعية إلى دنيا الحرية والإيجابية.
ظل إحساس مي بالغربة في مصر مهيمنا على ذاتها فلها اختلافها الديني واللغوي والعادات والتقاليد وهو اختلاف يقف حاجزا أمامها لإعاقة اندماجها مع الآخرين وتحقيق أمن وجودها الاجتماعي والنفسي ولذلك قررت أن تتعلم اللغة العربية فقرأت الأدب العربي بل وشاركت في النشاط الثقافي من خلال الصحف ثم من خلال صالونها الذي كان يُعقد كل ثلاثاء لكن ظل رائحة لتلك الغربة لا تفارقها.
عملت مي زيادة فترة من الزمن في تعليم أبناء النخبة في المجتمع المصري اللغتين الإنجليزية والفرنسية وهذا الاحتكاك لاشك أنه بنى ذاكرتها الاجتماعية والثقافية لطبائع المجتمع المصري وتلك الذاكرة فيما بعد سهلت عليها الاندماج في المجتمع المصري بل وجعلت منها قيمة تأثر وتأثير ليصبح صوتها الثقافي ذا سلطة في أوساط ليست الثقافية فقط بل ومراكز صناعة الرأي في مصر وهو ما جعلها مصدر توثيق وثقة.
لقد تحولت مي زيادة أيقونة المرأة العصرية العربية إلى مشروع استثماري ترويجي لأفكار الحركات النسائية التحريرية النهضوية في مصر بقيادة هدى شعراوي، لتصبح معادلا لصورة المرأة الجديدة التي طالما نادت بها مي في كتاباتها.
آمنت «مي» بتلك الحركات الداعمة لتحرر المرأة من الجهل والرجعية ورعت العديد من الأنشطة النسوية في هذا المجال وشاركت بقلمها ووجودها.
وكانت أقوى المساندين الذين أنجحوا تلك الحركات بسبب صوتها المسموع بين النخب الثقافية والسياسية في مصر من خلال صالونها الثقافي والذي تستطيع من خلاله تمرير ما تريده من أفكار وإقناع الجميع بها ويصفها العقاد بأنها «كانت مثقفة قوية الحجة وتهتم بتحرير المرأة وإعطائها حقوقها السياسية وكان اهتمامها موزعا بين العلم والأنوثة».
لم تكن مي زيادة مجرد امرأة جميلة تقافزت إليها قلوب وعيون كبار الأدباء من خلال صالونها والرسائل المتبادلة، فجمالها ليس فقط هو ما فتنهم بل لأنها جمعت ماهو نادر في النساء جمعت بين الجمال والذكاء كما أن تمثيلها لنموذجية الاختلاف الذي لم يألفه الأديب العربي مع أنوثة محصنة بالكبرياء والتألق المعرفي الذي تفوق على أدباء العربية؛ فكانت تتقن خمس لغات وقارئة للآداب الغربية وفلسفاتها وهو ما زاد ألق مي زيادة، لتبطل مقولة «كوني جميلة وأسكتِ».
كما أنها استطاعت كما يقول موسى سلامة أن «تفهم بنبوغها عقلية الرجل».
صحيح أن مي زيادة لم تقدم جديدا على مستوى القيمة الأدبية ولعل السبب يعود إلى عاطفة الأدباء نحوها الذين فضلوا أن يكونوا «مطبلين» لها مع حزمة الألقاب الثقافية التي أوقدوها حولها أكثر من موجِهين لتجربتها الأدبية لإنضاجها؛ حتى لا تغضب منهم.
لقد انشغل الوسط الأدبي العربي بحكايات حب الأدباء مع «مي» السرية والجهرية الحقيقية والزائفة دون اهتمام حقيقي بدورها المعرفي وتلك الحكايات هي التي شكّلت المكانة الأدبية لمي زيادة. وأظنها حكايات لا تتجاوز الدعاية البراقة بالنسبة للطرفين بالنسية «لمي» هي دعاية لجذب الأدباء والنخبة إلى صالونها والتأكيد على قيمتها الفكرية والأدبية والمحافظة على تألق صالونها ويقول خالد غازي في كتاب «مي زيادة السيرة الذاتية» أن سبب بقاء الصالون رغم افتقاره للغاية والمنهج اعتماد صاحبته على «جمالها ودلالها وعقلها وأنوثتها» وبالنسبة للأدباء فهي دعاية لجاذبيتهم وبأنهم مرعبون من امرأة جميلة وشابة مثل مي زيادة.
لقد آمن أدباء العربية «بمي زيادة» المرأة الجميلة التي تحدّت غرور ذكوريتهم الثقافية ولم يؤمنوا مطلقا بفكرها وثقافتها ولذا أول ما بدأ جمالها بالانحسار انفضوا من حولها وكان ذلك بمثابة «اغتيال معنوي لقيمتها كأنثى ومثقفة» وبعد موتها ما كانت لهم سوى «امرأة جاءت وذهبت».
لاشك أن مي زيادة أكثر من كونها «حكايات حب» إنها الفتاة التي أصبحت نموذجا للمرأة العصرية بكل المقاييس فكانت فاصلا زمنيا في تاريخ المرأة العربية لنقول بكل ثقة إن المرأة العربية قبل مي زيادة ليست هي لا شكلا ولا فكرا ولا وعيا بعد مي زيادة وليس هذا التغيير الحضاري الذي أحدثته مي زيادة في الوعي العربي كان محصورا على المرأة بل شمل الوعي الذكوري فقد استطاعت بقفازيها الناعمين أن تتحدى الذكورية الثقافية العربية وتعيد تشكيل قوى الاستحقاقات الثقافية مناصفة بين الرجل والمرأة.