د. جمال الراوي
سُئل الفنان محمد عبده، عن الحَجر المنزلي، بسبب تفشي «كورونا» في المملكة؛ فأجاب مازحًا، وبعفويّة بالغة: («ما بقا بيجاما ما لبسناها، ما بقا ثوب ما لبسناه، وأولادي اكتشفت أنّهم عشرة وليسوا تسعة)، وفي إجابته إشارة إلى فضيلتين لـ «كورونا»؛ أولهما أن اللباس الرسمي الذي يخرج به الإنسان لمقابلة الآخرين، هو واجب اجتماعي، وحِملٌ ثقيلٌ على الجسم، وقد يكون، عند المبالغة، غير صحيٍّ، بسبب ضغطه على البدن، وعدم إعطائه للعضلات حريّة الحركة، فيكون الإنسان حبيس هذا اللباس، ويحاول بين، الفينة والأخرى، تعديله وتهذيبه حتى يبقى في صورة لائقة في نظر النّاس، لذلك ما أن يعود إلى بيته حتى يخلعه عنه؛ لأنه أنهكه وأضناه، فيضع على جسمه لباسًا فضفاضًا ومريحًا لبدنه؛ يسمح لأعضاء جسمه بالتحرّك بحريّة وبدون حرجٍ أو خجلٍ.
أمّا الفضيلةُ الثانية التي أشار إليها محمد عبده؛ فهي أن المرء، لا يُدقّق، كثيرًا، في التفاصيل الصغيرة داخل بيته، ولا يعبأ بها؛ لأنها لا تلفت نظره، ولا يشعر بأهميتها؛ فجاء الحَجر المنزلي، ليكشف له خفايا؛ لم يكن يعرفها من قبل، وإذا به يكتشف بأنه كان غافلاً عن بيته؛ الذي يحتاج لبقائه أكثر، حتى ينشر فيه الأمن والطمأنينة، وحتى يرى من حوله الأولاد والبنات وهم يلجؤون إليه، ويحومون من حوله؛ فيداعبهم ويداعبونه، ويلعب معهم ويلعبون معه، فيظْهرُ له عالمٌ عجيب؛ لم يستقصيه في السابق، ولم يكتشف ما به من خزائن نفيسة ودرر ثمينة؛ أعلى مقامًا من الوظيفة التي يتولّى أمرها، وأغلى عطاءً وثروة من المكان الذي يعمل به، وأمتع للروح والنّفس من العلاقات الاجتماعيّة والوظيفيّة والرسميّة التي يتعامل بها خارج منزله.
خلال الأشهر الماضية؛ ظهر لكثيرٍ من النّاس بأنّ التجوّل في الأسواق والمولات؛ ليس مضيعة للوقت فحسب، بل هو خسارة للجيوب أيضًا، فقد جاء الحَجر المنزلي، حتى يرى النّاس بأنهم كانوا ينفقون، أو بالأحرى يُسرفون، وربما يُبذّرون أموالهم على حاجياتٍ؛ كانوا يرونها أمام أعينهم، فتغريهم، ثم يشترونها، بالرغم من عدم حاجتهم لها، وإذا بالحَجر المنزلي يسهم في الحفاظ على جيوبهم ممتلئة، ويحمي رواتبهم ودخلهم حتى يكفيهم إلى نهاية الشهر؛ بعد أن كانوا يصرفونه خلال الأسبوعين الأوليين منه، كما ظهر لهم بأنّ طعام البيت أكثر فائدة للجسم وأقل تكلّفة من طعام المطاعم، وتبيّن لهم بأنّ صناعة الأكل ليست مقتصرة على المطاعم، وأنّ زوجاتهم وبناتهم عندهنّ القدرة على إمتاع عيونهم، وإرضائهم بأطيب الأصناف منها.
أضرار «كورونا» معروفة، ولكنّ منافعه غير معترفٍ بها، ولا يذكرها النّاس، لأنّ أذاه غطّى عليها، ولأنه زرع الخوف والهلع في نفوسهم، وأصبح شبحه يلاحقهم، وجعلهم يتلفتون ذات اليمن وذات اليسار، خوفًا من أن ينال منهم، وهذه قد تكون فضيلة لهذا الوباء والجائحة، فقد جعلتهم يعيدون النظر في أنفسهم وفي طريقة حياتهم، حتى يأخذوا حذرهم، ويغيّروا في كثيرٍ من الأساليب والعادات التي كانوا يتبعونها، فالسهرات والتجمّعات واللقاءات، كانت فرصة للإنفاق والتبذير، وكانت العلاقات الاجتماعيّة تأخذ أكثر مما تستحقّه، وغابت فضيلة الخلوة مع النفس والحديث معها، التي يحتاجها الإِنسان، ليكتشف أسرارًا مُسْتَتِرة في داخله؛ تحتاج منه البحث عنها، والاستفادة منها، حتى يراجع مسيرة حياته.
الكساد الاقتصادي؛ من أضرار «كورونا» المعروفة، الذي بدأ ينتشر في المجتمع، فتعطّلت مصالح النّاس، وقلّ زبائن المتاجر والمطاعم، وتوقفت معظم المصانع والورش، فبدأت الدعاوى برفع الحظر، وترك النّاس يسعون في أرزاقهم، وقد استجابت معظم الدول وخفّفت الحظر، وعادت الحركة إلى الأسواق، من جديد، ولكنّها قد تأخذ ثوبًا جديدًا ومختلفًا عن السابق، في قادم الأيام، فالحياة بعد «كورونا» لن تكون مثل قبله، وسوف يضطر النّاس إلى تغيير طريقتهم في الاستهلاك، واللجوء إلى التوفير، وسوف يجدون بأنّ حياتهم السابقة مليئة بالبذخ والإسراف، وأنّهم كانوا ينفقون أموالاً طائلة على أدوات الزينة و»المكياج» والعطورات، التي كانت تكلّفهم الكثير.