د. عبدالحق عزوزي
في رسالة وجهها منذ أيام ملك بلجيكا فيليب إلى رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية فليكس تشيسكيدي بمناسبة الذكرى الستين لاستقلال البلاد، أعرب الملك، للمرة الأولى في تاريخ بلجيكا، عن «بالغ أسفه للجروح» التي تسببت بها فترة الاستعمار البلجيكي لجمهورية الكونغو الديمقراطية. وكتب الملك البلجيكي «أود أن أعبر عن بالغ أسفي لجروح الماضي هذه التي يستعاد ألمها اليوم عبر التمييز الذي لا يزال حاضراً في مجتمعاتنا».
وأضاف الملك فيليب، الذي اعتلى العرش منذ 2013، أنه «في حقبة دولة الكونغو المستقلة (حين كانت ملكية خاصة للملك السابق ليوبولد الثاني) تم ارتكاب أعمال عنف وقسوة لا تزال تلقي بثقلها على ذاكرتنا الجماعية». كما أكد أن «فترة الاستعمار التي تلت (للكونغو البلجيكية من 1908 - 1960) سببت أيضًا معاناة وإذلالاً». وأكد أيضًا التزامه «بمحاربة كل أشكال العنصرية»، قائلاً «أشجع على النقاش الذي بدأه برلماننا لكي يمكن لذاكرتنا أن ترتاح بشكل نهائي».
وعاد الجدل إلى بلجيكا حول العنف في الفترة الاستعمارية في الكونغو والدور المثير للجدل للملك الراحل ليوبولد الثاني، الذي يتهمه بعض الناشطين المناهضين للاستعمار بأنه قتل ملايين الأشخاص في الكونغو؛ وبلجيكا ليست هي الدولة الوحيدة في هذا الزخم الجدالي إثر وفاة الأمريكي جورج فلويد أثناء اعتقاله من قبل الشرطة الأمريكية؛ فدول غربية عديدة تعرف مظاهرات وجدالاً واسعاً عن الحقبة العبودة والاستعمارية لبلدانها.
ففي أمريكا رفض الرئيس الأمريكي في تغريدة على تويتر رفضًا قاطعًا الدعوات المطالبة بإزالة أسماء قادة من الحقبة الكونفيدرالية أثناء الحرب الأهلية، كان معظمهم مدافعاً شرساً عن نظام الرقيق، عن قواعد عسكرية أمريكية.
وطالب ترامب في تغريدته باحترام الجيش الأمريكي، وكان البنتاغون قد أبدى استعداده للنظر في هذه الدعوات.
من جهة أخرى، طالبت نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب، بإزالة تماثيل مسؤولين من هذه الحقبة من مبنى الكابيتول واصفة إياها بأنها «تكريم للكراهية وليس التراث» وذلك في إطار الجهود المبذولة لمكافحة العنصرية على خلفية قضية جورج فلويد. والقواعد العسكرية التي يطالب الناشطون بتغيير أسمائها تقع كلّها في جنوب البلد وتحمل أسماء قادة عسكريين جنوبيين خلال الحرب الأهلية، كان معظمهم مدافعاً عن نظام الرقيق.
والحرب الأهلية التي مزّقت الولايات المتحدة بين 1861 و1865 كان سببها الأساسي نظام العبودية الذي انقسمت بشأنه البلاد بين ولايات شمالية حاربت هذا النظام وأخرى جنوبية رفضت تحرير العبيد وأعلنت انفصالها عن الاتحاد وتأسيس كونفيدرالية.
ومن بين التماثيل المستهدفة في فرنسا، تمثال جون باتيست كولبير الموجود وسط ساحة مجلس النواب؛ وهذا الرجل كان أحد الوزراء الرئيسيين أثناء حكم لويس الرابع عشر، وهو صاحب «القانون الأسود» الذي شرع العبودية في المستعمرات الفرنسية الإفريقية. ويرى البعض أن مكانه هو في المتحف بعيدًا عن ساحة البرلمان الذي يمثل الجميع؛ وفي مدينة ليل شمالًا، نجد تمثال الجنرال لويس فيدهرب المثير للجدل، فهذا الرجل يعد شخصية بطولية بمقاومته الغزو البروسي لفرنسا، لكنه معروف بتكريسه العبودية والاستعمار والقتل خلال حملته على دولة السنغال الإفريقية.
أما في الولايات المتحدة الأمريكية، فبعض تماثيل الرجال الذين قادوا أو شاركوا في حرب انفصال فاشلة خلال الحرب الأهلية موضوعة في أمكنة بارزة في مبنى الكابيتول؛ ويمكن أن نذكر تمثالاً برونزيًا لجيفرسون ديفيس، رئيس الولايات الكونفيدرالية الأمريكية، وآخر رخاميًا لألكسندر ستيفنز، نائب رئيس الكونفيدرالية.
أما في بريطانيا، فقد شهدت مدينة بريستول، إسقاط تمثال لتاجر رقيق وهو إدوارد كولستون من القرن السابع عشر، وذلك وسط موجة الاحتجاجات التي شهدتها المملكة ضد العنصرية على خلفية مقتل المواطن الأمريكي جورج فلويد؛ وعرض تسجيل بُث على مواقع التواصل الاجتماعي متظاهرين، يرددون هتافات وهم يزيلون تمثاله ويلقونه في النهر.
لا جرم أن العديد من الدول الغربية هي الآن في مرحلة جديدة مع مصرع جورج فلويد وحراك الشباب المناهض للتمييز العنصري؛ وتلكم الدول ستعيش لفترة طويلة بين سندان المطالبة بمحو بعض الأسماء من الذاكرة ومطرقة أولئك الذي يقولون إنه لا يجب محو التاريخ ولا يجب محو أي أثر أو اسم من تاريخها أو أي تمثال فهم بحاجة إلى رموز، حتى لو صدمت الذاكرة الجماعية؛ ولكن جيل الشباب الصاعد لا ينظر بهاته النظرة الثانية وهو ما ينذر بفترات احتجاجية عصيبة في المستقبل علما أن أي احتجاج في بلد غربي يولد احتجاجات مماثلة في بلدان غربية أخرى...