أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: أبين في يوم الجمعة المباركة: الأمانة مع شرع الله تبدأ بالأمانة مع اللغة، ثم بالأمانة مع الظاهر الذي لا يفهم سواه من اللغة، ثم من الاحتمالات التي يحدثها المجاز الذي هو ركن ركين في لغة العرب، ثم بالأمانة مع ضرورات العقل من خبرته الحسية؛ فأما الأمانة مع اللغة: فقد أنزل الله سبحانه وتعالى بها شرائعه بالوحي إلى أنبيائه ورسله عليهم صلوات الله وسلامه وبركاته بلغتهم التي هي لغة قومهم؛ ليبينوا لهم؛ فلزمت الأمانة مع اللغة أولا؛ لأن شأن اللغة عظيم جدا؛ فهي السبيل إلى فهم مراد الله.. ومخالفة مراد الله بعد العلم به: تعمد لمعصية الله، وانتهاك لحدوده، وكل النصوص الشرعية في وعيد الله بالجحيم: إنما هي لهؤلاء المنتهكين حدود الله بعد علمهم بها والله سبحانه وتعالى جعل اللغة من آياته كما في سورة الروم، وامتن على أمة محمد (وله المنة وحده، ومنه الخير واصبا جل جلاله) بمحمد نفسه عليه صلوات الله وسلامه وبركاته، وجزاه عنا وعن كافة المسلمين، وعن جميع أمته خير ما يجزي الله نبيا ورسولا عن أمته.. ولم يبعثه الله ليظل دينه أميا؛ بل لينقلهم إلى الكتاب والحكمة؛ ولهذا امتن الله على جميع الخلق بـ(القلم)، وجعله ميزانا، وجعله الوسيلة إلى حفظ ابن آدم ما لم يعلم مما أذن الله له بعلمه كما في سورة الرحمن، وسورة القلم؛ والسر في هذا أن طرق البيان التي ذكرها الفلاسفة والمؤلفون في أصول اللغة قاصرة عن أداء اللغة بواسطة القلم؛ فالفرد الذي لم يعتور حسه وعقله ما يعطل قدراتهما: في وجدانه مشاعر من آلام وآمال وبراهين على وقائع قاطعة؛ فالأمانة مع اللغة التي هي السبيل إلى فهم مراد الله، وفهم مراد كل متكلم: أن نتكيف معها ولا نكيفها لأهوائنا: من هروب عن مراد الله، أو حمية للمذهب والمشايخ والأعراف.. ولا يحل لمسلم أن يفسر كلام الله بمعنى استجد بعد نزول كتاب الله ولو كان من معاني العرب العوام؛ بل يفسر بالمعنى المعروف عند العرب وقت نزول القرآن الكريم، وبالمعنى المعروف عند العرب قبل التنزيل؛ لأن القرآن نزل بلغتهم؛ ولأن بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام ربه، وقد جاء بلغتهم.. وأسلفت قريبا ما في وجدان الفرد، واضرب المثال بالمقارنة بين دلالة اللغة ودلالتي بعض أوجه البيان القاصرة؛ فالمقارنة الأولى من دلالة وجه الإنسان كما في قوله سبحانه وتعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ} (سورة الحج/2)، وبهذا المعنى قال (سلم الخاسر):
لا تسأل المرء عن خلائقه
في وجهه شاهد من الخبر
فهذه أولا: دلالة مرهونة بلحظات الرائي والوجه المرئي؛ وهي ثانيا دلالة احتمالية غير قطعية.
قال أبو عبدالرحمن: والمقارنة الثانية من دلالة العين التي عظم الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى من شأنها إذ قال كما في (مختصر طوق الحمامة)/ دار ابن حزم ببيروت الطبعة الأولى عام 1423هجريا ص 192 - 193: وإذ قال ابن حزم رحمه الله تعالى: «الإشارة بلحظ العين: وإنه ليقوم في هذا المعنى المقام المحمود، ويبلغ المبلغ العجيب، ويقطع به ويتواصل، ويوعد ويهدد، وينتهر ويبسط، ويؤمر وينهى، وتضرب به الوعود، وينبه على الرقيب، ويضحك ويحزن، ويسأل ويجاب، ويمنع ويعطى.. ولكل واحد من هذه المعاني ضرب من هيئة اللحظ لا يوقف على تحديده إلا بالرؤية، ولا يمكن تصويره ولا وصفه إلا بالأقل منه، وأنا واصف ما تيسر من هذه المعاني: فالإشارة بمؤخر العين الواحدة نهي عن الأمر، وتفتيرها إعلام بالقبول، وإدامة نظرها دليل على التوجع والأسف، وكسر نظرها آية الفرح، والإشارة إلى إطباقها دليل على التهديد، وقلب الحدقة إلى جهة ما ثم صرفها بسرعة تنبيه على مشار إليه، والإشارة الخفية بمؤخر العينين؛ (كلتيهما) سؤال، وقلب الحدقة من وسط العين إلى المأق بسرعة شاهد المنع، وترعيد الحدقتين من وسط العينين نهي عام، وسائر ذلك لا يدرك إلا بالمشاهدة.. واعلم أن العين تنوب عن الرسل، ويدرك بها المراد.. والحواس الأربع أبواب إلى القلب، ومنافذ نحو النفس، والعين أبلغها وأصحها دلالة، وأوعاها عملا.. وهي رائد النفس الصادق، ودليلها الهادي، ومرآتها المجلوة التي بها تقف على الحقائق، وتحوز الصفات، وتفهم المحسوسات.. وقد قيل: (ليس المخبر كالمعاين)، وقد ذكر ذلك أفليمون صاحب الفراسة وجعلها معتمده في الحكم».
قال أبو عبدالرحمن: على الرغم من هذه التجربة الحزمية البارعة: فحكم دلالة العين: أنها مرهونة، وأنها احتمالية كما مر آنفا.. وأمر ثالث أنها تنقل مرادك إلى من تلحظ له بالعين، ولا تنقل لك مراده.. ولتمام الاستمتاع من تجربة ابن حزم رحمه الله تعالى عن لحظ العين أذكر بقية كلامه.. قال ص 194 - 195: «وبحسبك من قوة إدراك العين: أنها إذا لاقى شعاعها شعاعا مجليا (الصواب: شيئا مـجليا) صافيا: إما حديدا مصقولا، أو (الأصح: وإما) زجاجا أو ماء، أو بعض الحجارة الصافية، أو سائر الأشياء المجلوة البراقة ذوات الرفيف والبصيص واللمعان (الذي) يتصل أقصى حدوده بجسم كثيف ساتر مناع كدر: انعكس شعاعها فأدرك الناظر نفسه ومازها عيانا.. وهو الذي ترى في المرآة؛ فأنت حينئذ كالناظر إليك بعين غيرك؛ ودليل عياني على هذا: أنك تأخذ مرآتين كبيرتين فتمسك إحداهما بيمينك خلف رأسك، والثانية بيسارك قبالة وجهك، ثم تزويها قليلا حتى يلتقيا بالمقابلة: فإنك ترى قفاك وكل ما وراءك؛ وذلك لانعكاس ضوء العين إلى ضوء المرآة التي خلفك؛ إذ لم تجد منفذا في التي بين يديك، ولما لم يجد وراء هذه الثانية منفذا: انصرف إلى ما قابله من الجسم وإن كان صالح (غلام أبي إسحاق النظام) خالف في الإدراك؛ فهو قول ساقط لم يوافقه عليه أحد.. ولو لم يكن من فضل العين إلا أن جوهرها أرفع الجواهر وأعلاها مكانا؛ لأنها نورية لا تدرك الألوان بسواها، ولا شيء أبعد مرمى، ولا أنأى غاية منها؛ لأنها تدرك بها أجرام الكواكب التي في الأفلاك البعيدة، وترى بها السماء على شدة ارتفاعها وبعدها؛ وليس ذلك إلا لاتصالها في طبع خلقتها بهذه المرآة، فهي تدركها، وتصل إليها بالطفر.. لا على قطع الأماكن، والحلول في المواضع وتنقل الحركات؛ وليس هذا لشيء من الحواس مثل (الذوق واللمس، لا يدركان إلا بالمجاورة، والسمع والشم؛ لا يدركان إلا من قريب)، وإلى لقاء إن شاء الله تعالى مع بقية هذه الدرر الحزمية في يوم الجمعة القادم، والله المستعان.