عبد الله بن صالح العقيل
يقول الشاعر:
لكَلِّ نَفس وإن كانت على وَجَل
مِن المَنِيّة آمَالٌ تُقَوّيها
المرءُ يَبْسِطُها والدّهْر يَقْبِضُها
والنّفْسُ تَنْشُرُها والمَوتُ يَطْوِيها
لست كأبي تمّام عندما أخذ يُوَلْوُل بعدما قبض الموت (واسطة العقد)، وهو أوسط أبنائه، حزنًا من أفعال الدهر. ولكني آمنت بربي الذي خلقني ورزقني وأعطاني من النعيم بصحبة أحباب عشت معهم زمنًا نتعاهد بيننا العلم والثقافة والبحث من خلال الرحلات في براري المملكة الواسعة.
وفي صبيحة يوم الخميس 4-11-1441هـ كنتُ منشغلاً بإضافة معلومات على مقال سابق، كتبته عن رحلتي عن بديع خلق الله في جبل المَحَجّة, وإذا بي أقرأ خبرًا وقع أثره في نفسي كالصاعقة التي أتتني على غفوة، هو عن وفاة أخي وحبيبي وقرة عيني عبدالله بن صالح العنيزان الذي أصابه المرض، وكنت على تواصل مستمر معه، وأطمئن على حالته. ولكن انقطعت سُبل التواصل بيننا لمدة أسبوعين فقط قبل وفاته. ولم يأتِ في ذهني أن المرض قد أنهكه. كان -رحمه الله- سمحًا كريمًا عطوفًا بشوشًا مع مَن يعرفه ومَن لا يعرفه. حسن الخُلُق، كريم المعشر، جميل السجايا، عالي الهمّة في البحث والتوثيق، واسع الثقافة في معلوماته عن أنحاء وطننا الغالي. وكان لا يُملّ مجلسه عندما يتحدث عن رحلاته الواسعة، ولا يبخل على المستمع بالمعلومات الموثّقة والرأي الصائب. وكان -رحمه الله- بارًّا بوالديه وأقاربه، عطوفًا على أولاده وأسرته، محبوبًا عند كل من يعرفه.
وُلد ونشأ -رحمه الله- في الرس، ودرس فيها المراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية, ثم حصل على الشهادة الجامعية (تخصص الجغرافيا) من جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض عام 1396هـ، وعمل في هيئة المساحة الجوّية في إدارة إنتاج الخرائط الجغرافية حتى عام 1421هـ بعدها انتقل إلى هيئة المساحة الجيولوجية السعودية حتى تقاعد عام 1433هـ. وخلال خدمته الحكومية كان مديرًا لمشاريع إنتاج الخرائط، وشارك مع الهيئة في إنتاج خرائط المملكة العربية السعودية الطبوغرافية, وشارك في لجان تحديد خطوط الأساس للمملكة في البحر الأحمر والخليج العربي، وفي لجان ترسيم حدود المملكة وإعداد الخرائط لها. كما كان له جولات واسعة جغرافية استكشافية مستمرّة.
فقده كل الجغرافيين بالمملكة الذين يعرفونه عن قرب، الذين سمعوا عنه، والذين قرؤوا كتبه، وكتبوا عنه كثيرًا وعن ذكرياتهم معه.. وسوف أورد مثالاً لذلك بما قاله عنه الأستاذ الدكتور عبدالله بن عبدالرحمن المسند أستاذ الجغرافيا في جامعة القصيم: «توفي اليوم الأستاذ الباحث الجغرافي البلداني الرحّالة الصديق الأريب عبدالله العنيزان, وبوفاته خسرت الساحة العلمية السعودية والعربية قلمًا راقيًا، وفكرًا نيّرًا، وقلبًا طيّبًا؛ فقد خلّف أعمالاً علمية ميدانية جغرافية فريدة في موضوعها، وغنيّة في محتوياتها».
ثم قال كذلك: «تميّز -رحمه الله- في مؤلفاته بدقة تحليلاته، وبسبك عباراته، وجودة مخرجاته. وتشهد الجبال والوهاد والنجاد والرمال والأودية والحرّات التي وطئها تكرارًا ومرارًا في سبيل صناعة أطلس المملكة, وضبط خرائطها الجغرافية. إنه عفّر وجهه لله ساجدًا».
ثم قال: «أبو فيصل آية في نكران الذات, ملك القلوب بتواضعه وخُلُقه الجمّ، وملك العقول باتساع معارفه الجغرافية والتاريخية. فما استعان به أحد إلاّ وكان القريب الوافي، يخجلك بتواضعه، ويذهلك بابتسامته، ويحرجك بكرمه. فما أحد طرق بابه أو وصل جوّاله إلاّ ومشى في حاجته حتى يقضيها على التمام والكمال في روح مفعمة بالإنسانية».
وقال عنه اللواء الدكتور خالد بن سليمان الخليوي: «استيقظت صباح الخميس على خبر وفاة الزميل الغالي والصديق الوفي، الأخ الذي لم تلده أمي، الأستاذ القدير والجغرافي النحرير عبدالله العنيزان. نزل الخبر عليّ كالصاعقة، وانحبست الدمعة في عينيّ، وتجاوب قلبي معها بصدمة فانشلّ تفكيري.. ألمّ به مرض لم يمهله طويلاً. ذاق معه التعب والألم الشديد، وكان صابرًا محتسبا فتغيّرت ملامحه، وذبل جسمه، إلا أنها لم تغيّر بشاشته وابتسامته ولطافة حديثه وشُكر الله على عطائه. عرفتُه قبل خمسين عامًا. كان من أحسن الناس خلقًا؛ فزادت محبتي له. وهو من أبرّ الناس بوالديه، وأكثرهم في صلة الرحم، ومقبول لدى كل من يعرفه. هو قامة في علمه وتخصصه، يستمع إليك وكأنه تلميذك، وهو أكثر منك علمًا ومعرفة».
وقال عنه أحد معارفه: «... أبو فيصل فقيد وطن, إخلاص لمليكه ووطنه. تعرّض لمخاطر في عمله الميداني في مشروع ترسيم الحدود. هو كبير خبراء الجغرافيين في معاهدة الحدود السعودية - اليمنية. عمل فيها من 1416هـ. أبو فيصل - رحمه الله - كان خبيرًا جغرافيًّا سعوديًّا، وثّق ودقّق مع اللواء الصايل خط فلبي وخرائطه ومذكراته وأسماء الأماكن والوديان، وأنتج الفريق 25 مجلدًا، تعتبر أهم مرجع من مراجع معاهدة جدة الحدودية. واستعان به الدكتور عيد اليحيى في برنامجه (على خطى العرب». ثم قال: «أبا فيصل رحت وأبقيت للوطن وللأجيال علمًا نافعًا ينتفع به, وتركت أثرًا بأخلاقك وعلمك, فأنت فقيد الوطن».
وأقول: ألّف الأستاذ عبدالله العنيزان - رحمه الله - عددًا من الكتب الجغرافية منفردًا ومشاركًا لزميله الأستاذ/ محمد بن أحمد الراشد، منها:
1 - كتاب (محافظة الرس)، وهو عن جغرافية الرس، وقد أبدع في عرض تلك الجغرافية الواسعة عن سكّانها ومساحاتها وجبالها ووديانها وشعابها ووهادها وسهولها، وكل ما يدخل في جغرافيتها. ويعتبر الكتاب الوحيد الذي يوثّق عن محافظة الرس في هذا المجال.
2- كتاب (الربع الخالي) بحر الرمال العظيم. وقد أبحر في رمال هذا البحر العظيم الواسع الخطير، وسبر أغواره، وكشف عن حقائقه وأسراره.
3 - كتاب (أطلس أسماء الأماكن في الشعر العربي). وقد استقصى كل الأشعار التي تتحدث عن الأماكن في المعلقات العشر للشعر الجاهلي.
4 - كتاب (الحرّات)، وهو يتحدث عن الحقول البركانية في المملكة العربية السعودية، وكان يقوم بزيارتها مع مجموعة من الباحثين الجغرافيين، يغوصون في أغوارها، ويكتشفون أسرارها، ويسجّلون المعلومات عنها.
5 - كتاب (المملكة العربية السعودية - حقائق وأرقام) طُبع الطبعة الثانية، ويتحدث عن المملكة: مساحتها، وتقسيمها الإداري، وحدودها وسكانها وتكوينها الجيولوجي وحرّاتها وسهولها ومظاهر سطحها ورمالها ومياهها وشعابها وطرقها القديمة والحديثة.. وغيرها.
6 - شارك في إعداد كتاب (دليل هواة الرحلات البرّيّة في المملكة العربية السعودية) مع مجموعة من الجغرافيين برئاسة رئيس هيئة المساحة الجيولوجية السعودية عام 1414هـ. وهو سجل ضخم عن المملكة وجغرافيتها وسطحها وأوديتها وشعابها ووهادها.. وغيرها.
7 - وغير ذلك كتب بحوثًا وسجلاّت موثّقة عن المواقع الجغرافية في المملكة، نرجو أن يتم إصدارها لتكون نبراسًا ينير الطريق أمام الناشئة المحبين للرحلات، والكشف عن المواقع في المملكة. توفي أخي أبو فيصل وقد خلّف بعده إرثًا جغرافيًّا ثقافيًّا ثريًّا واسعًا، وهو نتيجة زمن طويل من البحث والتحرّي والاستقصاء في أرجاء وطننا الغالي متحملاً أعباء السفر، وفجأة المخاطر التي يتعرّض لها الباحثون أمثاله. اللهم إني استودعتك أخي الغالي عبدالله بن صالح العنيزان فاغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسّع مدخله، ونقّه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس. اللهم أذقه من النعيم ما وعدت به المؤمنين الصادقين الصابرين المحتسبين، واجعل النظر إلى وجهك الكريم جزاء له يوم تجزي عبادك. يا رب احشره مع نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم- وعبادك الصالحين. اللهم أذقه الجنة ونعيمها، والفردوس وبرادها، واجعل له كنوزًا وبيوتًا في جنتك، وارحمه يا أرحم الراحمين، إنك سميع مجيب.