خالد محمد الدوس
بقلوب مفعمة بالحزن والأسى ومرارة الفقد، انتقل إلى رحمة الله تعالى والدي الشيخ.. العابد.. الزاهد (محمد بن عبدالرحمن الدوس) عن عمر يناهز الـ(104 أعوام) قضاها في رحاب الطاعات ودور العبادات.. حياة لا مناص كانت عامرة بالزهد والتقوى والورع والخشية- تغمده الله بواسع رحمته.
- عاش (والدي) حياة عصامية حيث فقد والدته وهو في (عامه الثاني) وبفقد الأم في المهد يفقد الإنسان مصدر الأمان والحنان ولكن عاش -رحمه الله- في كنف أمه لأبيه (الجدة) هيا بنت حسين العسعوس نظراً لكثرة تنقلات (أبيه) من الرياض إلى الأحساء لأعمال التجارة في الأربعينيات الهجرية من القرن الفائت, وبعد وفاة (جدته) انتقل للعيش عند عمه الشيخ محمد بن حسين الدرح (أبوحسين) رحمه الله وهو في (عامه السابع) وعاش والدي -غفر الله له- حياة السلف الصالح من القيم الدينية الفضيلة والشيم الاجتماعية الأصيلة.. فكان مضرب مثل وقدوة حسنة في صلاحه واستقامته وتنشئته الإيمانية السليمة.
- كان -رحمه الله- ممن صاحب القرآن الكريم في بواكير عمره.. يقرأ في جوف الليل وفي ضحى النهار.. صاحب القرآن في شبابه فصاحبه القرآن في هرمه.. فكان كلام الرحمن حاضراً في قلبه وعلى لسانه.. حتى بعد التغيرات العقلية الوظيفية وفقدان الذاكرة وضعف الإدراك بعد أن وصل عامه (104) ونسيانه كل شيء..!! إلا تلاوة القرآن وهو في مرحلة (دنو الأجل).. ويا لها من كرامة ومنحة وبشارة خير للصالحين أمثال فقيدنا الغالي (أبي).
- كان أبي أسوة حسنة في صلة الأرحام وحب التواصل وزيارة الأقارب فعلى رغم من أنه كان عميداً للعائلة وأكبرهم سناً كان يزور الأعمام وأقاربه وأحبابه دون أن يضع له حقا في ذلك..!!كنت يوما أتسامر معه في حديث عائلي وكنا عائدين من صلاة الجمعة فسألته عن دوافع زياراته التواصلية أسبوعياً رغم أن الحق كان له..؟! فكان جوابه: يا ولدي طالما أنت متعافٍ ونشيط أوصل أرحامك ولا تنتظر أحد يزورك.. الوصل كله خير (فهو مرضاة للرب, وطول عمر, وصحة في البدن, وفيه ملائكة تسبح لك) ما أروعها من إجابة عملية (استوعبت) من خلالها أهمية وفضل وأثر (صلة الأرحام).
كانت حياته -رحمه الله- مليئة بالزهد والورع حتى سكنه في بيت كان ملاصقاً للمسجد حرصاً على أداء الصلاة فيه حتى مع تقدم عمره وفي مرضه وصعوبة حركته كان يصر على الذهاب للمسجد بالعكازة الرباعية وهو مثقل الحركة وكان همّه الصلاة في وقتها.. وأتذكر قبل وفاته وفقدانه للوعي بأيام خرجنا به على الكرسي المتحرك في الحي بقصد تعرضه للشمس قبل الغروب وهو فاقد الذاكرة وحين رفع آذان المغرب وسمع صوت المؤذن، قال رحمه الله (نصلي) إنها قلوب عظيمة تنشّأت وتربّت على حُب الصلاة التي كانت منهج حياته, ورّبى أبناءه الأبرار عليها، ولا غرابة من ذلك، فالصلاة معراج المؤمن وهي الصلة بين العبد وربه، ومن هنا خص الله -عز وجل- المؤمن بالظل في رحمته وفي ظله يوم القيامة بالمحافظة والتعلق بالصلاة, وجعل ثالث سبعة يظلهم الله سبحانه بظله يوم لا ظل إلا ظله (رجل قلبه معلق بالمساجد), هكذا كان قلب (أبي) معلقا ببيوت الله -عز وجل- منذ صغره, وعندما تتجه بوصلة قيمه الدينية إلى (سلامة القلب) فقد كان -رحمه الله- متسامحاً ومتصالحاً مع الجميع لا يعرف الكراهية والبغضاء والحسد والكلام في غيبة الناس كان رجلاً جُبل على صفاء القلب وسلامة الصدر يدخل المجالس بصمت وسكينة وهيبة ووقار ويخرج منها بصمت وهدوء.. ولسان ذاكرًا لله -عز وجل-, كان مبدأه الإيماني ينطلق من قول لقمان الحكيم: (إذا تفاخر الناس في المجالس بحسن كلامهم.. فتفاخر أنت بحسن صمتك).. والصمت حكمة, كان والدي الزاهد.. العابد يكره الكلام في أعراض الناس، وإذا سمع أحدا يتحدث في المجلس عن شخص غائب يقول (اذكروا الله) واتركوا الناس في حالهم..!! إنها قيم دينية فضيلة, تأصلت في منهج حياة (أبي) غفر الله له الذي كان معلمي الأول ومدرسة (تربوية- اجتماعية- أخلاقية ودينية) تعلمت في فصولها الكثير والكثير من القيم والشيم الفضيلة, ولأن الصالحين والعابدين يمنحهم الله -عز وجل- كرامات وعلامات تبشر بالخير والفلاح، فقبل وفاته ظهر يوم الأحد قبل الماضي كنت أنا وشقيقي الأكبر (مساعد) بجواره يتناول طعامه (سوائل) عبر الإبرة بعد دخوله مرحلة (قرب الأجل)..!! وتم تغيير ملابسه، وإعطاؤه العلاج في فمه وإعادته للسرير، وكان فاقداً للوعي فقط حاضراً معنا بالتنفس.. وفي هذه اللحظات نزل (ملك الموت) وأتى عند رأسه مخاطباً روحه الطاهرة -بإذن الله- (اخرجي أيتها الروح الطيبة.. إلى روح وريحان ورب غير غضبان).. فخرجت روحه الطهرة إلى ربها في لحظات دون تعب أو ألم, وقد انسلت روحه كما تسل الشعرة من العجين, أي لم يتأثر بها.. هكذا ينال الصالحون الكرامات المفرحة والعلامات المبشرة.
- فما أصعب فراق (الأب).. فهو الأمان.. والاطمئنان.. والحنان.. اللهم إنك تعلم أني لا أبكي ولا أحزن اعتراضاً على قضائك وقدرك، ولكن حزني وبكائي أن باب من أبواب الجنة انغلق برحيل (أبي).. والأب أوسط أبواب الجنة.
- اللهم ارحم (أبي) تحت الأرض ويوم العرض ومدّ له يد رحمتك يا واسع المغفرة.. يا عظيم المن. والحمد الله على قضائه وقدره. و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.