شريفة الشملان
فيلم كويتي قصير جميل بكل معنى الجمال، أُنتج في 2016م، لا يتحدث كثيرًا عن علاقات متوترة، ولا حب متوهج، ولا يغرغر كلمات كويتية تضلل المتلقي.. تأليف المبدع يعقوب بورحمة، وإخراج أحمد الخلف. إن كان حقًّا يسمى فيلمًا أنيقًا فهو (عتيق). فكرة جميلة، تذكرنا بأبي القصة القصيرة ورائد الحكايات الجميلة أستاذنا الجاحظ؛ فالأفكار كالترب في كل مكان، والذكي هو الذي يصنع من أي شيء قصة وحكاية. وهذا الذي يولد الفضول للعقل؛ فيحرك الخيال، وربما يتجاوزه.
الفيلم بعدد قليل من الممثلين، وتركيز على المعنى، مدته لم تجاوز الساعة واثنتي عشرة دقيقة تقريبًا. كنت أظنه في البداية فيلمًا علميًّا عن صناعة السبح (جمع سبحة) حول العالم. كنت أستقي معلوماتي من أخي؛ إذ كان له - رحمه الله - شغف كبير بها. فهذه كهرمان، وأخرى اليسر، وتلك مطعمة بالذهب أو الفضة.. ولبعضها حكايات تدور. لم أشغف بحكاياتها كثيرًا، لكن قررت أن أشاهد الفيلم، واستمتعت كثيرًا، وأظن كلامي عنه هنا لن يغني عن مشاهدته.
بائع السبح يؤدي دوره صلاح الملا ذو الشخصية القوية أبو عتيق، المعتد بنفسه وتجارته، يعرف تفاصيلها، ويعرف عن قيمها وكينونتها مهما صغرت.
له أسرة صغيرة: الابن (عتيق) شبه متخلف، يؤدي دوره (خالد البريكي) لنا بصورة محبوبة طيبة وباقتدار، يجلس عند باب البيت، ويذهب لمتجر أبيه، لكنه لا يحب العملاء، ولا تهمه هذه التجارة. بسيط، يهوى العود، ويدندن عليه أغنيات جميلة، تشاركه أمه فيها الفنانة (هيفاء عادل)، ونتذكرها منذ مسرحية (بيباي لندن)، تناضل من أجل حقوق المرأة، لكنها تمارس ضعفًا أمام زوجها لا مبرر له؛ فتدعه ينسف كل حقوقها في البيت، بما في ذلك حق ابنه البسيط في ممارسة هواية العزف على العود الذي تشاركه الاستماع له والاستمتاع به.
راعية حقوق المرأة تقف عند حدودها عند هذا الزوج حبًّا وكرامة ومهابة، ويكسر عود ابنها هاوي العزف.
شدني الابن عتيق كثيرًا، بسيط بقناعاته وذكائه، يجلس على عتبة بيتهم يراقب ابنة الجيران، ويحلم أنها له، وأنه يلاعب طفلهما. بسيط جدًّا بساطة عذبة.
محل السبح محل جميل، في مكان يليق بها. الأب يلمع ويمسح بود، يغازل تلك الجميلة، يحفظها بحب. أماكن جميلة للغالية. النادرة مقفلة، هي للعرض فقط.
هناك ككل المحال الأشياء البسيطة والعادية، يمر بها الجميع، ويلمسها الجميع، لكن النادرة والغالية محفوظة وللعرض فقط؛ إنها الدرر التي تزين المكان ولا يزينها.
من أوسط تلك السبح تبدأ الحكاية الجميلة. صاحب المحل عند محل آخر للسبح حين يتصل به صبي المحل فيعلمه بفرح أنه باع درة السبح بأربعة آلاف دينار (نحو خمسين ألف ريال). يكاد يجن صاحبنا؛ فقيمتها أكثر من أربعة آلاف، وقيمتها المعنوية أعظم. وهنا تدور حكاية السبحة حين تنطلق للحياة. اشتراها رجل يضارب في الأسهم محب للبر والقنص، يستمتع بحياته، ويرى النساء لعبًا. (حكاية في بطن الحكاية)، ودافعة للحكاية الأم. تضيع منه السبحة الجميلة، ويجدها فتى فقير، يقدمها هدية لأخيه في زفافه.
هنا تبدأ قصة جميلة. عرف الشاب قيمة الجوهرة التي بين يديه، فيبيعها، ويسدد ديونه، ويشتري لأخيه البدلة الرياضية التي يتمناها. وتعود السبحة لمكانها مدللة مكرمة بعد أن اشتراها الابن (عتيق)، وأعادها لمحل والده كمفاجأة سعيدة.
إنه فيلم جميل وأنيق ومهذب جدًّا.
* * *
عذوبة الفيلم ببساطته، وباختيار السبحة الثمينة كراوٍ، وتنقُّلها بأيادي طبقات المجتمع المختلفة. بين إفراط بالتعلق والشدة من التاجر الأب إلى التفريط والإهمال؛ فتضيع. وتظاهُر السمات الإنسانية الطبيعية في المجتمع الكويتي الأصيل بمختلف أطيافه (الحضر والبدو)، والابنة الكويتية، والتاجر، والفقير.. بعيدًا عن الحوارات الممجوجة، والتمطيط ولا (منو ياينا هالحزة).