د.فوزية أبو خالد
بداية يوم الاثنين 8 - 6 - 2020 تكون مدينة نيويورك قد أنهت مائة يوم من العزلة بما يبدو فيه استعارة تعبيرية بتماس رمزي خفيف مع حمولة المضمون الروائي لرواية جبريل غارثيا ماركيز «النوبلية» الشهيرة «مئة عام من العزلة». غير أن مقولة الروائية رضوي عاشور المقتبسة بدورها من المبدع غسان كنفاني, تصح هنا بقدر أكبر, حيث قالت «خيمة عن خيمة تفرق» لنقول «عزلة عن عزلة تفرق», كما تصح أيضًا روايتها «فرج» في الحديث عن أجيال وأنواع من العزلة.
فعزلة اللون كعزلة «الأبرتايد» التي كانت قائمة على الفصل العنصري بما عبر عنه الكثيرون من أدباء جنوب إفريقيا ومنهم الروائية الراحلة في بداية الجائحة ميريام مسولي تلالي في روايتها «بين عالمين» أو مثل نيلسون مانديلا «مسيرة نحو الحرية» تختلف على ضراوتها عن عزلة المعتقلات التي عبرت عنها أعمال أدبية وروائية وسير ذاتية عديدة لأدباء ومناضلين ونشطاء سياسيين عبر العالم كروايات بعض الضالعين في أدب المعتقلات عربيًا وعالميًا ومنهم بن جلون والعتوم والمرزوقي وصنع الله إبراهيم وأوسكار وايلد وكبعض الأعمال المعاصرة, «القوقعة», «شرق المتوسط» و»شرف» ومن ذلك «رسائل من سجن برمنجهام» لمارتن لوثر كنج, و»حياة مسروقة», و»ألف يوم في زنزانة العزل الانفرادي» لمروان البرغوثي.
ويجدر التنويه إلى أن الرواية الأخيرة ومعها ديوان ترانيم من خلف القضبان لعبدالفتاح الحمايل، هما من أدب العزلة المفجع الطاحن في سجون العدو الإسرائيلي وذلك قليل من الكثير الذي قامت بتوثيق حالاته الظالمة والقائمة إلى يومنا هذا وليس في الماضي البعيد الشاعرة المقدسية «إيمان مصاروة» في كتابها أدب السجون في فلسطين الصادر عام 2017م بمقدمة شجية عن أدب عزلة المعتقلات وجراحه الغائرة النافرة للشاعر زاهي وهبة. وهذا الفصيلة القاسية والفادحة من عزلة المعتقلات التي لا تفتأ تذكرنا بطعناتها الحادة عزلة الجائحة كلما خلونا بأنفسنا حتى بعد المرحلة الأولى من رفع الحجر بمدينة نيويورك وفي العالم هي بالضبط ما قام «ميشيل فوكو» بكتابة كلمة مكثفة ودامية عن فلسفتها بأشكالها القديمة والمستجدة فقال فيها إنها تلك الوحشية المبرحة التي لا تكتفي بسجن الجسد بل تقوم بضرب حصار العزلة على الروح.
في مقال د.سعد البازعي المترجم مؤخرًا بجمالية عالية عن وحشة الكاتب الأمريكي «رافيل دبليو يوبانكس» في شوارع واشنطن دي سي إبان جائحة كوفيد - 19 يستعرض محاولات الكاتب الاستشفاء من العزلة بالأدب. ورافيل يحاول ذلك ليس فقط بالقراءة ولكنه يتداوى بالأدب حتى في اللحظات المسروقة من العزلة حين يمشي حرًا في الشارع بينما يعيد له مرة بالخيال ومرة بمكر الذاكرة تلك اللمسات الأدبية التي تخلق أنسًا روحيًا يهزم العزلة أو على الأقل لا يتورع عن منازلتها في عرض الشارع. ومما يقوله في ذلك: «شعرت بحدة أنني محاط بالأدب بالكيفية التي يظهر فيها... في الحرم الجامعي لهاوارد... يجلس مقعد على الطريق... لتوني موريسون... إلى جانب المترو قصيدة إثلبيرت ملر محفورة على حجر أرضي, تقول:
«حاربنا المجهول
لم ندر ظهورنا
أمسكنا بأيدي بعضنا البعض
وتعانقنا»
لم يكتب ملر القصيدة في وقت الجائحة ولكن تكفي قراءتها على ما يبدو لتشكل كلماتها نواقض حلال لكل وحشة التباعد الاجتماعي ولتكسر ولو بالأخيلة ثقافة اللا لمس التي شكلت إحدى المفردات الجارحة من أبجدية الحجر ومن فقه العزلة.
***
ومع أنه لم يكن في مدينة نيويورك أي منع للتجول خلال المائة يوم من العزلة باستثناء بضعة أيام إبان المظاهرات الغاضبة لمقتل المواطن الأمريكي جون فلويد, التي تحولت اليوم لاعتصامات هادئة مطالبية وتثقيفية ضد العنصرية أمام قاعة المدينة، فإن عموم الناس على ما يبدو تنفسوا الصعداء بعمق شديد لما سماه حاكم نيويورك أندريه كومو بالتنسيق مع رئيس بلديتها دي بلازيو, بـ»المرحلة التجريبية الأولى لإعادة فتح نيويورك للحركة البشرية». والمقصود هنا تحديدًا إعادة الضخ المالي وتحريك السوق للخروج على حالة الموات التجاري والتوقف الاقتصادي الذي خلقته الجائحة.
أما اللافت فهو أن أعدادًا كبيرة من النيويوركين يبدو أنها انتشت بنصف الخبر الذي هو قرار إعادة فتح سوق العمل دون أن يصل مسامعها الشرط القانوني الذي وضع مصاحبًا لقرار إعادة فتح المدينة للحركة التجارية وهو شرط التباعد الاجتماعي والالتزام بالكمامة.
ولهذا كان صادمًا لي وليس مجرد أمر مزعج أن أرى تلك الأريحية غير المسؤولة التي بدا عليها الشارع بمدينة نيويورك, مطاعم فتحت على مصراعيها دون أن يبدو أنها اتخذت حدًا أدنى من المقاييس الصحية لذلك فبعد إغلاق مائة يوم كان الأثاث مغبرًا وكانت الأواني مهجورة وكانت المطابخ الخلفية مكتومة وكانت الأرصفة متسخة، بل إن كلمة متسخة لا تصف الحالة المزرية القذرة للأرصفة والشوارع التي التجأت إليها الكثير من المطاعم لتوسيع مساحة ضيافتهم «دون أن تضرب فيها مكنسة أو ترشها بماء». ليصبح ما خالوه يوفر شكليًا شرط التباعد الاجتماعي وسيلة للتعريض بصحة مرتادي تلك المطاعم أنفسهم وبسلامة العاملين فيها الذين غالبًا ما يكتفون بوضع الكمامة على ذقونهم. كما أن في لجوء بعض تلك المطاعم والمقاهي لوضع الطاولات والكراسي على أرض الشارع وليس على أرض الرصيف فقط باسم التباعد الاجتماعي واستضافة الرواد للجلوس بلا كمامات يأكلون ويشربون ويتنفسون في وجوه المارة المضطرين للمرور تقريبًا من بين الطاولات المرصوصة في الممرات العامة, يشكل دعوة مفتوحة وعاجلة لانتشار فيروس كورونا ولعودة العزلة من الباب العريض للحجر على ما به من ضيق.
***
أفر من هذا اللغط البشري وأقصد تلك المكتبة الشعرية النائية التي طالما لجأت إليها «لبيت الشعراء» على شرفة نهر هادسون إلا أنني أجد أنها بعد مشوار لم يكن قصيرًا قد أصبحت أمام عيني ولا استطيع الدخول إليها, أتخيل أولادي يقولون «طيب يا ماما الله يهديك ليش ما شيكتِ عليها بالنت قبل ما تضربي المشوار». أتظاهر بأنني لم أسمعهم, والقي التحية من بعيد بلا تماس على أصدقائي الكثر من الكتب وكتابها الذين يعيشون الحجر داخلها في حرية مطلقة. أقرر أن أمر في طريق العودة على الفرع غير بعيد مني للمكتبة العامة. أصل, فأجد درجها الطويل الذي كنتُ سأرتقيه على جهد وعناء مني ولكن بنفس راضية وشغف, مشغول بالغبار وورقة تتدلى من بعيد كتبت بخط عريض عن وعد بفتح المكتبة في 13 من شهر يوليو.
Epiphany branch of the new York public library on 23rd Street
أقفل عائدة إلى بيتي غير أنني في محاولة لتأجيل العودة للعزلة الاختيارية التي فرضتها على نفسي أعرج رغم تعبي على «موما» المتحف التشكيلي للفن الحديث على شارع 53، أجد مرة أخرى الأبواب الأمامية مقفلة والبوابة الخلفية حيث اعتدتُ أن أدخل مع الأطفال وأتركهم في ركن الفن الخاص بهم مقفل أيضًا لم يبق إلا أن أقفل عائدة للبيت على شارع 52 وأدخل كمبيوترى وأقفل على نفسي.
و»صوت فيروز يلاحقني بابهم مسكر والعشب غطى الدرج»
لا أنجح في طريق العودة أن أثث الشوارع بخيالي لأنها تعج بمارة بعضهم لا تخفى ابتساماتهم رغم اختفاء مبسمهم تحت الكمامة بعضهم لا يبالون بلبس الكمامة إلا على الذقن ويصك وجهه خشية التوبيخ, والبعض ملتزم بكمامات ملونة أو مطرزة أم من قماش شفاف فلا يخفي الفم. كدت انشغل, عن خيبتي في إيجاد مكتبة أو متحف ألوذ به من منتبذي ليحميني ولو لبضع ساعات من عنف الحجر, بشيء يمكن تسميته بفنون اللثام. غير أنني بالتفاتة سريعة شعرتُ على حين غرة بضربة توغل في خاصرتي حتى كاد يختل توازني وتسقط من يدي أحد العكازتين ولم تكن تلك الطعنة المخاثلة إلا منظر سيدة سوداء ليست شابة ولكنها ليست مسنة وقد انكبت على آنية القمامة بناصية الشارع أمام «تافرن إيرلاندي» وأخذت تغترف منها ما بدا من فتات.
تحاملتُ على نفسي وأنا أحمد الله على نعم لا نراها بينما يسيل جرحي. إلا أنني كنتُ أمشي وكانت صخرة بحجم الأرض على شكل علامة استفهام تجثم على ظهري وصدري وتوشك أن تهشم عظمي.
كدتُ أهاتف ابني وأيقظ ابنتي من نومها لأبثهما وحشتي وخيبتي وحزني ووحشية العالم وآلام الحجر وطعم الطعن لولا أنني تذكرت أنه موعد كتابة المقال فوجدت ضالة بوحي.