مساء الأربعاء الثامن عشر من شوال 1441هـ تاريخ لن أنساه، مساء قلبت صفحات الوثاب (الواتس) وفي القائمة إشعارٌ من الحبيبة سمو الأميرة نورة بنت محمد فَعَجِلْتُ بالقراءة، وأصابني ما يشبه اضطراب البصر وأعدت وزادتني الإعادة شتات بصيرة.
توقفت ألتقط أنفاساً تتأرجح بين الإنكار والرضا بالقضاء، ونازعتني نفسي أن أتوقف عن مراجعة قراءة الاسم المنعيّ، لكني استعذت بالله وأنا أردد: «لا حول ولا قوة إلا بالله».
وأقوي النفس وأقوي العزم للتأكد من الاسم ولسان حالي ينطق: «من عرف ربه هانت عليه مصيبته».
واجهت تلك الصفحة البيضاء التي حملت تعزية تقطر حروفها دمعاً خالطت دمعي الذي جاهد في محاولة يائسة لطمس الاسم وحديث في النفس «لعله اسم آخر».
لكن محاولاتي هزمتها الحقيقة الوحيدة الناصعة في حياتنا إنه الموت ألا نسميه اليقين؟
حقا إنها تعزية في حبيبتنا، فاطمة بنت صالح التركي والدة خالد بن حمد الحبيب.
وتزاحمت عواصف المشاعر بمرارة الفقد وانهمار الذكريات وبدأت سياط جلد الذات واللوم على التأخر في التواصل مع الأحبة.
كم هي قاسية تلك الظروف التي تشغلنا وتشاغلنا عندما ينادينا الشوق وتصرفنا عوارض الدنيا.
يعلم الله كم كنت أنوي مهاتفتها في رمضان الأخير، وكذلك مهاتفة رفيقة دربها رمز الوفاء والصحبة الطيبة حبيبتنا وأختنا التي نستمد منها قوة العزم الفاضلة فوزية النعيم.
لا حول ولا قوة إلا بالله تأنس بها النفس، وتفضي إلى الدعاء نداوي به صدوع القلب وكلومه، نجفف دمعاً حارقاً عجزت عنه العين، فالحرق يكوي المُهَج، ومرارة الفقد تعقد اللسان.
متى كان لقاؤنا الأول؟ بين شلالات الحزن وبحر العطاء، تغيب أرقام التواريخ وتبقى صور العطاء خالدة، وتضيع إجابة السؤال؛ لكن عذوبة الذكريات تستحضرها تنبض بالحياة.
اللقاء الأول كان في صالون الثقافة والرقي في مجلس صاحبة السمو الأميرة نورة بنت محمد حرم أمير القصيم في مستهل تحمله مسؤولية الإمارة.
في ذلك الصالون وما تبعه من ندوات ومنتديات حظيت بمعرفة طاقات العطاء وعناصر البناء.
مجموعة من سيدات القصيم وزهراته تفتحت على العمل الاجتماعي، تحدوهن رغبة عارمة في استثمار كنوز القصيم البشرية واستظهار إبداعاتها إسهاماً في تنمية هذا الوطن العزيز.
هناك تعرفت عليها يملؤها شوق للعطاء وخدمة الإنسان (والأقربون أولى بالمعروف).
في حديث معي قالت لي أحلم أن يكتفي القصيم كله بذاته ويكون عوناً لجميع مناطق الوطن في التنمية والاكتفاء، فإن الوطن جسم إذا عمل كل عضو على صحته سيقوى، ونحن السعوديين قادرون.
ثم جاءت احتفالية الجنادرية والعمل على افتتاح بيت القصيم وكان لي شرف العمل في جمعية القصيم فرع الرياض التي رأستها المبدعة سمو الأميرة نورة بنت محمد.
كانت اللجنة تعمل بروح مخلصة متفانية، وكانت فاطمة تحضر مع سمو الأميرة وأذهلتني بأحلامها الواعدة وطاقاتها المتجددة.
ولا أنسى حماستها للمحاضرة التي عقدت ضمن فعاليات المهرجان وكان لي الشرف بصحبة زميلات عالمات جليلات الأستاذات د. منيرة العلولا ود. نوال الحلوة، وكانت مشاركتي بورقة عن (أمثال القصيم الصياغة والمضمون)، وكنت أستشيرها في نطق بعض الأمثال مع من استشرت من سيدات القصيم الفضليات.
وفي زيارة أخرى للقصيم نظمتها صديقات من جمعية التوعية بسرطان الثدي، وقد شرفتني بالدعوة الصديقة الصدوق والأخت التي أعتز بها الدكتورة عواطف القنيبط وكانت صديقة مقربة من حبيبتنا بحر العطاء فاطمة.
في هذه الزيارة كانت فاطمة تعتني بكل فرد من أفراد المجموعة الوافدة وتهتم باحتياجاتهم وتقول بفخر هذه توجيهات سمو الأميرة نورة. كانت دوماً عوناً على العطاء ومفتاحا لأبواب الخير.
كنت أرواح في زياراتي للقصيم لكني لا أنقطع وفي كل مرة كانت أمواج بحر العطاء تأتي بجديد يدهش العين ويبهج القلب.
فاطمة كانت بحر العطاء جمعت بين حنكة الإدارة وقوة الإرادة. قالت لي يوماً ليس العمل الخيري أن نطعم المحتاج وإنما أن نأخذ بيده للإنتاج.
كانت المرأة والطفولة همها الأول فاعتنت بالأسر المنتجة جاء عملها المضني بثمار المشاريع التي أشرفت عليها حيث أنتجت وأينعت وطاب قطافها.
كما كان توظيف الشباب من همومها الكبيرة فسعت في كل منشأة مستحدثة في القصيم لاستقطاب الشباب من الجنسين.
أذكر في زيارة لمنتجع (الملقى) فرحة الموظفين والموظفات وحفاوتهم في استقبالنا وهي معنا، وهمست لي زميلة أن فاطمة سعت لتوظيف الشباب، كما ساعدت بعض السيدات للعمل طاهيات أبدعن وأسعدن ضيوف المنتجع بما يقدمنه من الأصناف الشعبية التي لها حلاوة البيئة المحلية.
أذكر عند زيارتنا للقصيم احتفالاً بإنجازات (جمعية قطرة) أن تفاجأت الضيفات أنها جعلت مسكنها الشخصي مقرا للجمعية واجتزأت بجناح صغير تقيم فيه.
كانت السعادة التي في قلبها تغمر الحضور، حينها تذكرت قصيدة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه وأرضاه-:
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها
إلا التي كان قبل الموت بانيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه
وإن بناها بشر خاب بانيها
نعم لقد بنت وجعلت من عطائها بحراً لا ينضب، فمشاريعها مستمرة واستثمارها في الإنسان متجدد ومحفز. رحمها الله وأكرم وفادتها وجزاها عن القصيم وأهله الفردوس الأعلى وجمعنا بها وأحبتها وأحبتنا في مستقر رحمته عنده.
نعم رحلت فاطمة لكنها الغائب الحاضر في قلوبنا واستحقت بجدارة ألقاباً، مثل: أم الأيتام، وفقيدة الوطن.
نعم رحلت فاطمة لكنها تركت في كل ثمرة عطاء مما قدمت يزهو به القصيم، فالأفراد يذهبون، ويبقى القصيم يحتفي كل يوم بأمثال فاطمة في العطاء ذكوراً وإناثاً.
** **
- د. وسمية المنصور