م. بدر بن ناصر الحمدان
قبل نوفمبر 2013م، كانت الصورة الذهنية لدي عن الآثاريين أنهم جزء من مجموعة الميتافيزيقا والما ورائيات وما وراء الطبيعة ويهتمون بدراسة جوهر الأشياء فحسب، بل ويعتبرون أنفسهم أوصياء على ما تحت الأرض، منكفئون على أنفسهم، ولديهم طقوسهم وعوالمهم «الخفيّة» التي لا يشركون أحد بها، ولا يعملون إلا «سراً» وبعد منتصف الليل.
الساعة الرابعة فجراً، الثاني من ديسمبر 2013م، في الطريق مع مجموعة من الآثاريين - على سبيل الاستكشاف - إلى موقع أثري شمال المملكة تعمل فيه بعثة تنقيب من إحدى الجامعات الأجنبية، في مهمة عمل تستغرق يومين، كانت المرّة الأولى التي أشارك فيها في مهمة تُعنى بالآثار، طوال الرحلة كان الجميع يتحدث بمفردات ومصطلحات جلّها بالنسبة لي عبارة عن «طلاسم»، وجزء يسير منها مرّ علي ذات يوم في مراحل الدراسة الأساسية، التزمت الصمت أغلب فترات الرحلة، رغبة في فهم ما يحدث من حولي.
كانوا يتحدثون عن عالم مختلف وعلم دقيق جداً، كل تواريخهم تشير إلى ما قبل الميلاد، ومحور نقاشاتهم مرتبط بحقب العصور التاريخية، والإنسان القديم، ونشأة البشرية، وتحليل الظواهر الكونية، والحضارات الإنسانية وغيرها من المواضيع التي كان من الصعب عليّ فهمها أو حتى استيعابها وأنا القادم من بيئة البلديات وتخطيط المدن ومشاريع البنية التحتية الحديثة.
رحلة اليومين تلك مع الآثاريين، لم تنته بنهايتها، بل امتدت إلى أكثر من ثماني سنوات وحتى اليوم، عشتها معهم بكل تفاصيلها وأحداثها ولحظاتها، قضيت معهم أوقاتاً أكثر مما قضيتها مع عائلتي، اكتشفت من خلالهم عالماً آخر للحياة على هذه الأرض، وقفت بهم ومعهم على جانب مشرق جداً لعلم الآثار وفروعه، ودوره في بناء مستقبل حياة الإنسان وعلومه وحضارته، تعرَّفت على مختصين وممارسين وخبراء في هذا الحقل، وتعلّمت منهم ما لم أتعلّمه في سنوات مضت، واكتسبت مما يتحلّون به من قيم وأخلاقيات مهنية رفيعة في التعامل مع هذا النوع من العلوم ذات القيمة الاستثنائية.
أعجبني كثيراً في الآثاريين احترامهم الكبير لأساتذتهم وعلمائهم ممن سبقوهم بالبحث والتنقيب والتأليف، هذه سمة راقية جداً ونادرة، كنت شاهداً على أمانتهم العلمية في مواقف كثيرة، حدثت أمام عيني، هم أناس محترفون جداً في الالتزام بالمعايير والمناهج والأعراف والتقاليد العملية، وفوق ذلك كله يبرهنون في كل موضع أنهم يمتلكون ذائقة فنيّة وبصرية وجمالية في غاية الأناقة، ينظرون من خلالها إلى كل ما يحيط بهم من أشياء.
اللافت للنظر، ومن تجربتي مع الآثاريين، اكتشفت أنه كلما زاد فهمك وتعمقك في مجالات الآثار وعلومها كلما كنت أكثر ثقةً وإتقاناً وصقلاً لتخصصك سواء كنت مهندساً أو معمارياً أو مخططاً عمراني أو غيرها من التخصصات ذات العلاقة، ستشعر حينها أنك تمتلك مرجعية علمية وعملية تمكنّك من خلق مفاهيم جديدة للتطوير والتغيير والابتكار وفق معادلة متزنة وبالاستناد على أرض صلبة من المبررات المقرونة بتجربة عمارة الأرض عبر التاريخ.
باختصار، لكي تعلم «أين أنت»، عليك أن تعمل مع «آثاريين».