د.عبدالله بن موسى الطاير
منذ المرحلة الثانوية كان يستفزني خط العداء الصارخ للمملكة الذي يجمع المحلّلين العرب والمذيعين في برامج بي بي سي العربية (هنا لندن). بسذاجة القروي توقَّعت أنها مواقف عارضة لأشخاص لديهم قصصهم الخاصة مع السعودية. كنت مهموماً بما أسمع، وأخربش في أوراقي مشبّها المملكة بخيمة تتوسط صحراء شديدة الجفاف والقيظ، وبدلاً من أن يستظل القوم بظلها، إذا هم يحرقونها ويواصلون الشتات والتيه.
أدركت متأخراً أن تلك الكراهية كانت راسخة في قناعة عدد من الحكام العرب إما بالانتساب إلى المخطط أو بالسماع عنه وقبوله، أو غض الطرف عنه. وكانت القيادة السعودية تعرف تفاصيل تفوق ما يعرفه مواطن بسيط مثلي، ولكن سعة الأفق والصبر والحلم كانت أشد مضاءً في مواجهة المتآمرين فنفد بعضهم بحسرته.
لفت نظري في مخيمات الأفغان في بيشاور عام 1992م ما كتبه لي ثلاثة من الطلاب الذين كنت أدرّسهم في جامعة برهان الدين رباني من أن «السعودية ضالة ومضلة، لا تشعر بآلام المسلمين، ولا تتعاطف مع قضاياهم»، وكنت وقتها أحمل روحي على كفي وأغامر بحياتي وزملائي لتدريسهم وإغاثتهم بتكليف رسمي من الدولة التي يسيئون الظن بها. لأثبت كذبهم، أخذتهم في حافلة كبيرة طافت بهم من شروق الشمس إلى غروبها مركز الإغاثة السعودية للاجئين الأفغان من مستشفيات ومدارس ومراكز تدريب ومستودعات أرزاق، وآبار. في اليوم التالي هرع الثلاثة يعتذرون، وعرفت أن العرب الأفغان من زعماء التنظيمات الإرهابية ورموز الإسلام السياسي هم الذين سمموا أفكارهم، ومنهم من يحمل جواز السفر السعودي بكل أسف.
المملكة استهدفت في قيادتها بسعي دؤوب للتفريق بينها وبين الشعب. لكن السعودي يعلم أن سنوات الاستعمار لبعض أجزاء الجزيرة العربية وبخاصة في الغرب والشرق ورّث تخلفاً وفقراً وخوفاً جعل من أقدس بقاع الأرض موطناً دائماً للجهل والفقر والمرض والخوف، في وقت كانت الحواضر العربية والإسلامية تتقلَّب في رغد العيش.
لم يكن ممكناً الدخول في حرب مع المملكة، فكانت التنظيمات الإرهابية هي البديل الذي دعم مادياً وإعلامياً ولوجستياً لضرب الاستقرار السعودي. أورد تحقيق الكونجرس في أحداث 11 سبتمبر 2001م أن أحد كبار زعماء القاعدة سعى شخصياً لتوظيف أحد كبار عملاء القاعدة ويدعى مصطفى حامد مراسلاً لقناة الجزيرة في أفغانستان، وهو الذي قاد عملية التفاوض بشأن إقامة علاقة سرية تجمع بين القاعدة والحرس الثوري الإيراني للسماح بالعبور الآمن للإرهابيين عبر أراضي إيران دون ختم جوازات سفرهم. وقد زالت الغربة الآن من بث فيديوهات القاعدة وكلمات زعمائها عبر قناة الجزيرة، ولم تتوقف الممارسة إلا بعد تدخل أمريكا ومنعها القناة من ذلك.
السؤال: لماذا هذا البغض والتآمر الذي كشفت خيمة القذافي طرفاً منه؟ لو تم التدقيق في تلك الشخصيات لوجدتها مأزومة، عفنة، منبوذاً بعضها، والبعض الآخر عضو في تنظيمات إرهابية التقت مشاريعها في الحاكمية والخلافة مع تطلعات القذافي المجنونة. يعتقد أولئك أن السعودية حالت بينهم وبين الدين والثروة. عندما كانت المشاعر المقدسة في الحجاز بدون ثروة تم إهمالها قروناًً من الزمن، وعندما استقر الحال تحت الحكم السعودي وتدفقت الثروات أنفقت المملكة بسخاء على المشاعر المقدسة، وسهَّلت وصول المسلمين إليها بأمن لم يعهده الحجاج والمعتمرون والزوار منذ الخلافة الراشدة. يغيظ أولئك المتآمرون أن السعودية حالت بينهم وبين استخدام منبري الحرمين الشريفين لتحقيق أهدافهم السياسية، وحالت أيضاًً بين المتطرفين منهم وبين استغلال الحرمين لتأليب المسلمين على غيرهم، وتقسيم العالم إلى فسطاطي إسلام كفر متقابلين في حرب تهلك الحرث والنسل وتدمر الحضارة الإنسانية، هذا من جانب، ومن جانب آخر أحكمت السعودية قبضتها على الثروة وتصرَّفت بها وفق الأطر الدولية في وضح النهار وصرفتها في التعليم والتنمية في داخل المملكة وفي البلدان المحتاجة للمساعدة، ولذلك حالت بين المتآمرين وتلك الثروات، التي لطالما أسموها «النفط العربي» وحرمتهم من استخدامها لتأليب العالم على بعضه بما يقوِّض الأمن والسلم الدوليين.
ما غفل عنه هؤلاء المتآمرون هو أن السعودية توحَّدت بسواعد أبنائها، وأن الأسرة الحاكمة السعودية هي أول أسرة عربية تحكم معظم شبه الجزيرة العربية، منذ رحلت الخلافة إلى دمشق. تلك التسريبات جعلت السعوديين يتعرَّفون على أعدائهم بألسنتهم، فهدفهم النهائي هو السلطة، والثروة.