عبدالرحمن الحبيب
«هندي تشيني بهاي بهاي» الهند والصين أخوان، كان هذا الشعار الذي بدأت به العلاقات الهندية الصينية وفقاً للمبادئ الخمسة لاتفاقية بانتشيل (1954م): احترام سلامة الأراضي وسيادتها، عدم الاعتداء، عدم التدخل بالشؤون الداخلية، المنفعة المتبادلة، التعايش السلمي. لكن سرعان ما انقضت عُرى الأخوة بسبب خلاف حدودي على مرتفعات الهيمالايا، عندما خاض البلدان حرباً قصيرة عام 1962م مالت كفته للصين، وحتى اليوم يُنظر إلى نتائجها على نطاق واسع في الهند على أنها مهينة (إنك جوشي، فورين بولسي).
الحدود بين البلدين الممتدة بطول 3.440 كم، رسم أغلبها المساحون البريطانيون، ولم يقتنع بها الطرفان خاصة الصين التي لم تعترف أبدأ بحدود رسمها المستعمر البريطاني. وما يضاعف المشاكل هو التضاريس المتغيرة للحدود بسبب الانزلاقات الصخرية وتساقط الثلوج والذوبان مما يُصعِّب تحديد خط الحدود، واقتناع دوريتا الحدود بأنهما على جانب بلدهما من الحدود.. وظلت الدوريات الحدودية للبلدين مستمرة بدخول المناطق التابعة للطرف الآخر، لا سيما أن السيطرة على المرتفعات الحدودية تعطي ميزة عسكرية مهمة.
وصارت تحدث مناوشات حدودية بين حين وآخر أسوأها تلك التي ذهب فيها قتلى عام 1975.. ورغم توقيع اتفاقات تهدئة إلا أن المناوشات ظلت تظهر لكن دون قتلى، آخرها مناوشة عام 2017 بعد محاولة المهندسين الصينيين بناء طريق جديد عبر الأراضي المتنازع عليها بين بوتان والهند والصين، استمرت 73 يومًا على هضبة دوكلام.. وأعقبتها قمة بين الرئيس الصيني ورئيس الوزراء الهندي لإيقاف المناوشات.
لكن فجأة حدثت قبل أسبوعين انتكاسة حادة، إذ تواجهت الهند والصين في مناوشات دموية على طول حدودهما. اعترف بيان للجيش الهندي بوفاة ضابط وجنديين، ثم أكد مسؤولون هنود وفاة 17 جنديًا آخر. كما أعلن الصينيون وجود قتلى، لكن دون تحديد العدد. هذا الاشتباك هو الأسوأ منذ حرب 1962، والخسارة الأولى بالأرواح منذ 1975.
ونتيجة قسوة الظروف الطبيعية في جبال الهيمالايا الشاهقة التي تحد بشدة من العمل العسكري، فإن كلا البلدين قد أنشأ بالسنوات الأخيرة بنية تحتية عسكرية جديدة على طول الحدود، لتحسين اتصالها بخط التحكم لجلب تعزيزات الطوارئ في حالة وقوع مناوشة، وكأنهما على أهبة الاستعداد للصدام، لا سيما أن لكلا البلدين وسائل إعلام قومية متشددة يمكنها تصعيد النزاعات.
السؤال لماذا الآن لأكبر بلدين نوويين يمثلان ثلث سكان العالم، ولديهما أكبر اقتصاد بعد أمريكا، بالوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد العالمي ركوداً نتيجة تداعيات وباء كورونا؟ ربما الجواب في لعبة جو (Go) كما تروي مجلة إيكونوميست، وهي لعبة صينية قديمة، يتجاهل فيها اللاعبون الأذكياء المعارك الصغيرة لصالح اللعب الاستراتيجي، عبر ترك النزاعات المحلية دون حل إلى وقت لاحق عندما تشتد اللعبة ويكون الخصم ضعيفاً، يمكن انتزاع مكاسب ثمينة بتكلفة ضئيلة. لذا، فمؤيدو الجانب الهندي يرون أن الصينيين استغلوا التهاء الهند بجائحة كورونا وانكماش اقتصادها، فيما يرى الجانب الآخر أن الهند هي التي غيرت الوضع الراهن، ووسعت البنية التحتية بهدوء بالمناطق المتنازع عليها.
ما المتوقع حدوثه؟ الطرفان يحاولان تهدئة الوضع، لكن كل طرف يتهم الآخر بانتهاك الحدود والاتفاقات عمداً، وإذا زاد الضغط الداخلي من القوميين من أجل الرد والانتقام، فيمكن للأحداث الأخيرة أن تتفاقم وتخرج عن السيطرة. أما لو وقع صراع عسكري، فيعتقد معظم المحللين أن الجيش الصيني سيكون له الأفضلية؛ ولكن على عكس الصين، التي لم تخض حربًا منذ غزوها لفيتنام عام 1979، تمارس الهند قتالًا منتظمًا مع باكستان ولديها تجربة عسكرية أكثر خبرة.
هناك قلق هندي من تنامي النفوذ الصيني حول محيط الهند، في سريلانكا ونيبال وبنغلاديش، فيما يصل الناتج المحلي للصين خمسة أضعافه بالهند، وتنفق أربعة أضعاف ما تنفقه الهند على الدفاع (جيمس بالمر، فورين بولسي). لذا، حشد الهنود مؤخرًا حملات لمقاطعة البضائع الصينية، وعدلت الهند بعض القوانين لمنع الشركات الصينية من السيطرة على الشركات الهندية. هذا، فضلاً عن أن باكستان حليف للصين، وقفت إلى جانب الصين في أغلب القضايا الرئيسية، مثل تايوان والتبت. وجرى تعميق العلاقات من خلال مبادرات مثل الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان (استثمرت فيه الصين 60 مليار دولار)، إلى جانب التمويل الصيني لميناء جوادر والمبادرات الاقتصادية الأخرى.
بالمقابل توثق الهند علاقاتها مع خصوم الصين مثل فيتنام واليابان، فضلاً عن أمريكا.. فعندما زار الرئيس الصيني الهند عام 2014، سُمح للمنفيين التبتيين بالاحتجاج، بينما حين زارها ترامب هذا العام، استقبل بتجمع حضره أكثر من مئة ألف شخص وشاهده ما يقرب من 50 مليونًا (أنك جوش). لذا، يُرى على نطاق واسع، أنه إذا كانت هناك حرب باردة جديدة (بين أمريكا والصين)، فالمتوقع أن تميل باكستان للجانب الصيني فيما قد تميل الهند للجانب الأمريكي.
التوترات بين الصين والهند متراكمة منذ عقود، والصدام الأخير يمكنه تأجيجها لكن العالم لا يمكنه تحمل أزمة عالمية أخرى بتصاعد الخلاف بين قوتين عظميين ما لم تتدخل قيادات البلدين للتهدئة.. التهدئة ممكنة لكن آفاق الحل على المدى الطويل تبدو ضئيلة..