هدى مستور
تاريخ العنصرية بدأ من إعلان دعوى التفوق والفوقية بـ»أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ» 12 الأعراف وهي أول كلمة اعتراض جاءت من جهة شيطانية، لتبرير المعصية الأولى، المسجلة في تاريخ الكون.
العنصرية بمفهومها الحالي؛ في الأصل كانت فكرة، تسللت إلى داخل النفس البشرية بفعل مقدمات عدة، ثم ما لبثت وتحولت إلى قناعة راسخة، وعقلية جمعية دامغة، تستفز، وتدفع وتحرك السلوك البشري.
إن مجرد طرح فرضية أن هناك أسسا علمية تؤكد وجود فروقات بيولوجية بين البشر، عنصرية.
ولاشك سيساورنا شكوك حول منهجية العلم الذي يزعم ذلك.
كما أننا لانقبل فكرة سطحية وساذجة، تختصر نماذج العنصرية في مظهر واحد، وهو العرقية وإقصاء ذوي البشرة السوداء، أو حتى اتهامهم بأنهم الأقل في القدرات العقلية، في الوقت الذي ندعي فيه التسامح والعدالة، ومكتفين بالتباهي الشفوي، بالانتماء إلى دين، نسف الفوارق الإنسانية، وعدها من أذيال الجاهلية.
وحينما كنا نتابع المظاهرات التي يشنها الأمريكيون السود ضد اليمين المتطرف، وموقفه المتشدد من الملونين خاصة وكذلك من المهاجرين والمسلمين، فإننا لا نقبل أن نختزل مفهوم العنصرية بمعاينتها فقط؛ وذلك بأن نتوجه بعواطفنا، عنوة وبتكتيك من مضخات الإعلام، سواء صوب أسلوب مقاومة واحدة وهي: المظاهرات الصاخبة، أو صوب جهة واحدة كأحد بقاع الأرض القليلة التي يشكو قاطنيها من العنصرية!.
و من يؤيد فكرة أن مقاومة العنصرية عبر المظاهرات العارمة، الفوضوية، والعارضة، سيقضى عليها من جذورها، هو في مستوى السطحية نفسها لمن يفترض أن المسبب لها واحد فقط، وهو في نفس عقلية من يتوهم أنه بريء منها؛ فالعنصرية جاءت من مجموعة عوامل متداخلة منها ما يعود إلى المستقبلات بداخل النفس البشرية، ومجموعة أخرى تعود إلى الثقافة البيئية، والسياسات المتحكمة، وقلما يسلم منها أحد، وهذه ليست ملاحظة شخصية إنما إيماناً بصدق من لا ينطق عن الهوى: «أربعٌ في أمَّتي من أمرِ الجاهليةِ، لا يتركوهنَّ: الفخرُ في الأحسابِ، والطعنُ في الأنسابِ» صحيح مسلم.
لقد أصدرت الجمعية النفسية الأمريكية بيانًا اعترفت فيه بأن بعض العوامل النفسية تتسبب بأن يصبح شخص ما عنصريًا، لكنها دعت إلى مزيد من الدراسات «لاستطلاع هذه الفرضية».
فالعنصري به اعتلال، وهو غير سوي، باعتباره سمح لعدد بغيض من الأفكار بأن تسكن داخله، وتتحكم في اختياراته الواعية واللا واعية. ويتفاوت مستوى اعتلاله بحسب درجة تمكن العنصرية منه، واتخاذ قراراته؛ وما ينجم عنها من آثار تتفاوت ما بين الخفة إلى الضرر البالغ.
وبالنظر إلى ما نصت عليه المادة «1» من قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المؤرخ في 1965 وتاريخ بدء النفاذ: 1969، هذه الاتفاقية، التي جاءت على أنه يقصد بتعبير «التمييز العنصري» أي تمييز أو استثناء أو تقييد أو تفضيل يقوم على أساس العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومي أو الاثني ويستهدف أو يستتبع تعطيل أو عرقلة الاعتراف بحقوق الإنسان والحريات الأساسية أو التمتع بها أو ممارستها، على قدم المساواة، في الميدان السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو في أي ميدان آخر من ميادين الحياة العامة.
إلا أنه لم تعد العنصرية مبنية على أساس عرقي، إذ ظهرت عنصريات جديدة تقف خلفها أبعاد اجتماعية، واختلافات بيئية، وثقافية؛ فنظرة الازدراء التي يتوارثها أبناء منطقة تقطن في جهة جغرافية، تجاه أبناء منطقة تسكن في جهة أخرى، واعتماد معيار المناطقية والقبلية نفسها في حال قبول متقدم لوظيفة، أو ترشيح ترقية في منصب، رد خاطب فقط بالنظر لأصله، الغمز في متحدث للهجته، الاجتراء بالاعتداء العنصري على عامل فقير أو متغرب، تناقل طرائف وغمط ذوقيات تتضمن الغمز في عادات أهل مناطق، والتقليل من أصالة تراثهم، تبرير جرائم ومخالفات بإلحاقها للون بشرة أو عرق، أو طائفة، أو ثقافة أو جهة.
وكما أن توسلات جورج لم توقظ الإنسانية في قلب الشرطي العنصري، ليسمح له بنَفَس، كحق طبيعي له، فإن مقاومة العنصرية بممارسة الإسقاط، وبمجرد الشجب والإنكار غير مجدٍ في التحرر من عنصرية قابضة بحبائلها، وممتدة بجذورها في أعماق النفس البشرية، فكلمة نبوية، ثقيلة في الميزان «إنك امرؤ بك جاهلية،،،» لرجل من الأخيار تنفي دعوى الطهارة من لوثة العنصرية، وتدعو إلى مزيد من التحرك الاستبطاني، لتزكية النفس، والاشتغال بتطهيرها من علائق العنصرية.
حادثة «جورج» العنصرية، جاءت متزامنة مع أحداث ووقائع متتالية، كشفت خلالها كثيرا من أنواع الاعتلال والزيف والخداع، الذي نمارسه بحق أنفسنا والآخرين، ونحن في كل مرة نخرج من هذه التجارب، نتوهم أننا لسنا معنيين بها بالمرة، ومنها تجربة جورج فلويد، فهي بمنأى عنا ولا شأن لنا بها؛ هي تجربة وقعت بعيداً عنا. ولكن مع قليل من محاولات التحليل العميق والموضوعي، في نفسياتنا، نكتشف أننا لم نسلم من لوثة العنصرية!؛ فنفسية العنصري أو من به عنصرية، بها بذرة كِبر، وفي ظاهر الأمر، نعزوها لأجل ميزة الفرادة والتفوق، في شيء ما، إلا أن مرباها في أصله، يعود إلى التطرف في الشعور بالخوف، وخلف الخوف تقبع فكرة خاطئة؛ وهي فقدان المقام! فخوف إبليس من ضياع منزلته النارية، وصفته الحارقة، ومزاحمة الإنسان الطيني الجديد له. أنموذج متكرر لكل كائن سمح للطاقة النارية باختراق طبيعته الطينية، «أنا خير منه» «أنا متفوق» أنا «متميز» أنا أنا أنا!
والخائف بطبعه هو انفصل باختياره، عن جهة الأمان الوحيدة، والرحمة الأزلية، والحكمة اللانهائية، هو لا يثق في جهة الإيواء الفطرية خاصته، هو يظن أن اعتماده على نفسه، أو على غيره من الحبال المادية الظاهرة، هو ما يكفيه، ويدعمه، ويؤيده ويميزه.
وبلغة التفاهم لدى أهل المادة؛ في مواجهة خاطئة، هو خائف من انكشاف ضعفه، وافتضاح نقصه، وظهور تقاعسه، وعجزه، سواء كان ذلك ظاهراً أمام الناس أو حتى في قرارة نفسه؛ ولذا هو يستعير دعوى الفرادة والتميز، بشيء لا يد له فيه، لإسكات صوت الحقيقة الخافتة، حقيقة أن لا ميزة، ولا كرامة، ولا تفاضل بينكم، وأن المعيار الحقيقي هو في تزكية النفس وإعادتها إلى فطرتها النقية كما أودعها الفاطر.
ومن صور الحيل الخفية، ردود فعل كثير جاءت بإظهار فضل الإسلام وموقفه من التمييز العنصري، وعلى الرغم من أن ذلك حق، إلا أنها حيلة نفسية من نوع آخر لتبرئة النفس من أنفاس العنصرية الملوثة، وكأنه يقول: وهذا يكفيني من الأدلة. في حين أنه يمارس صورها في عدد من تجارب حياته.
من به عنصرية، هو شخص خائف من فكرة فوات شيء من حظوظه، ولذا فهو يخوض صراع داخلي غير متكافئ؛ فتسكنه النقمة، ويعاقره الغضب، وقد بلغ به اليأس مبلغاً- وإن نفى ذلك وأنكره- فهو في الأصل يعوزه التسليم، وينقصه الرضا، ولم يتعلم الإخبات والتواضع الحقيقي بعد؛ هو غاضب من الله؛ تجاه تدبيره جل وعز في شؤون الخلق، وساخط من تقسيمه للأرزاق، ومعترض من جراء حرمانه من بعض متع الحياة، هو لا يجد متنفساً لمجموع ذلك، إلا رقبة أول ضعيف أو مستضعف يواجهه، ليدوس عليها بقدمه، ويدكها بركبته!، يفعل ذلك في حين أن شرر الغضب الشيطاني الأول، لايزال يتطاير من عينيه.