د. جاسر الحربش
يرجِّح علماء الأوبئة استمرار جائحة كوفيد 19 في حالة مد وجزر لسنوات عدة إن لم يصحح الإنسان أخطاءه البيئية المترتبة على طموحاته العسكرية والاقتصادية والمعيشية الجنونية. الفقر والتكدس السكاني في بيئات فقيرة محرومة من المشاركة في امتيازات المناطق الثرية، وكثافة الحركة البشرية للعمالة الفقيرة من مجتمعات تفتقر إلى أدنى مواصفات الرعاية الصحية إلى مناطق أخرى مرفهة، لكنها متدنية المناعة الذاتية، إضافة إلى السياحة التجارية العشوائية، أي عولمة السياحة وثقافة الوجبات السريعة، ثم - وأهم من كل ذلك - ما تسببه العولمة من تدمير واستنزاف للبيئات الطبيعية.. هذه هي أهم العوامل في استثارة وتحول أي وباء محلي إلى جائحة عالمية تقتل الملايين. باختصار، الفقر السائد في ثلاثة أرباع سكان المعمورة، والتكدس السكاني، والتواصل العشوائي، وتدمير الطبيعة.. هذه هي العوامل الأربعة المسؤولة عن نشوء الأوبئة وانتشارها. وكلها من صنع الإنسان. وما الميكروبات المجهرية سوى وسائل كامنة.
دراسة تاريخ الجوائح الكبرى التي فتكت بالبشر توضح أن الإنسان كان دائمًا هو المسؤول الأول عن كل وباء يبدأ في مكان ما، ثم ينتقل منه إلى أماكن أخرى. وباء الطاعون الروماني في القرنَيْن الثالث والرابع الميلاديَّيْن، وطاعون عمواس في القرن الهجري الأول (السابع الميلادي)، والطاعون الأسود (الموت الكبير) في القرن الرابع عشر الميلادي، وجائحة الإنفلونزا الإسبانية. إن السبب المتكرر في كل هذه الأوبئة كان تكدس البشر المحاصرين بالحروب، وما يترتب عليها من نقص الطعام والشراب، وعدم القدرة على التخلص من جثث الموتى بالدفن أو الإحراق؛ فيبدأ الوباء أولاً بين السكان المحاصرين، ثم تنقله الجيوش معها بعد عودتها إلى بلدانها الأصلية.
حدث الطاعون الروماني أثناء حصار الجيوش الرومانية لبلاد ما بين النهرين (العراق)، ثم نقله الجنود العائدون من الجبهات إلى إيطاليا. وطاعون عمواس حدث نتيجة الحصار المتبادل بين جيوش الروم والمسلمين. والموت الكبير نتيجة لحصار المغول بلاد الصين (مات فيه نصف سكان الصين ونسيهم التاريخ من التسجيل)، وقد نقله التجار الأوروبيون من الصين عبر طريق الحرير إلى أوروبا. أما الحمى الإسبانية (الأمريكية في الحقيقة) فوصلت مع الجيش الأمريكي عبر الموانئ الإسبانية مع الجنود الأمريكيين الحاملين للفيروس إلى أوروبا للمشاركة في الحرب العالمية الأولى.
من المهم التذكير أن الأعداد الأكبر التي لم يسجلها التاريخ لوفيات الحمى الإسبانية لم تكن في أوروبا وإنما في الهند والشرق الأوسط وإفريقيا؛ فقد نقلت الجيوش الأوروبية الاستعمارية الفيروس معها إلى مستعمراتها؛ فمات الملايين من سكان تلك البلدان؛ لأنهم كانوا يعملون بالسخرة للمستعمر، وبدون مقابل، ويعيشون مكدسين في أحياء يضربها الفقر والجوع ونقص المياه، وكانت تُنهب ثروات بيئاتها الطبيعية لتُشحن إلى أوروبا، ويُترك السكان الأصليون للجوع والمرض والموت. مات في الهند فقط بسبب الحمى الإسبانية قرابة عشرين مليون نسمة.
هكذا يعلِّمنا تاريخ الأوبئة أن الإنسان، بواسطة الغزو والحصار، ونقص الطعام والشراب، ومنع المحاصرين من التخلص من الأموات، وتخريب البيئة المعيشية، كان دائمًا هو السبب في نشوء الجائحات وانتشارها الواسع.
والآن، وعلى ضوء تلك الحقائق التاريخية، لندرس الحالة الوبائية التي تضرب عالم اليوم، ونسميها جائحة كورونا كوفيد 19. ما كانت تفعله الحروب قديمًا حتى منتصف القرن العشرين من حصار وتجويع واحتجاز للسكان في مناطق محاصرة حلت محله العولمة التجارية والصناعية والسياحية بما يترتب عليها من تخريب للبيئات الطبيعية، وتحريك عشوائي لملايين البشر بين القارات.
والآن ما الذي حدث بالضبط مع جائحة كوفيد 19؟ ركز الإعلام المعولم منذ البداية على غرائب سوق شعبية للأطعمة المكشوفة، تبيع لحوم الحيوانات النادرة في مدينة ووهان الصينية، كسبب طبي لانتشار الوباء، ولكن هذا الإعلام المعولم لم يتعرض للسؤال المهم: ما هي العوامل التي توافرت في تلك السوق بالذات ليبدأ منها الوباء، ثم ينتشر في العالم؟ وما هو دور العولمة التجارية والصناعية والسياحية والغذائية وتخريب البيئات الطبيعية في ذلك؟ حينما نمعن التفكير في البداية، ونقارنها بما كان يفعله حصار الحروب بالبشر، نعثر على الحقائق الآتية: تلك السوق الشعبية في ووهان كان أكثر مرتاديها من فقراء المدينة الذين لا يستطيعون التسوق في المراكز التجارية النظيفة. والمدينة نفسها ذات كثافة سكانية عالية في بلد يتعدى سكانه المليار والمائتي مليون نسمة. ويقيم أكثر مواطني تلك المدينة في أحياء شديدة الفقر، ومتدنية النظافة. والمنطقة (هوباي) التي عاصمتها مدينة ووهان صناعية، يضربها التلوث وفساد الهواء منذ عشرات السنين، مثل كل المدن الصناعية الصينية، وهي أيضًا منطقة عبور سياحية وتجارية مفتوحة على العالم. هكذا تجمَّع في ووهان الصينية الفقر الطبقي، والتكدس السكاني، والبيئة المدمرة، والعولمة السياحية والتجارية العشوائية.
ثم يأتي السؤال: ماذا فعلت السلطات الصينية فور إدراكها أنها أمام وباء شديد الانتشار؟ ببساطة المنطق أمام المعطيات المفاجئة حاولت السلطات الصينية إغلاق الأسواق الشعبية، ثم الأحياء وكامل المدينة الموبوءة، ومنعها من التواصل مع محيطها تمامًا كما يحصل في حصار الحروب، ثم قطعت الولاية بكاملها (خمسين مليون نسمة) عن البر الصيني والعالم. خلال الأسابيع القليلة الأولى، ربما بسبب عنصر المفاجأة، أو النقص المعرفي بطبيعة الوباء، لم تشارك الصين العالم في مسؤوليات التحصين والاحتياط؛ فخرج فيروس كوفيد 19 إلى العالم الخارجي عبر الطيران والملاحة البحرية، وكانت الضربة الأولى في اليابان. هكذا انتشر الوباء كما تنتشر حرائق الغابات في كل العالم المتطور منه والمتخلف. بسبب الإهمال الإداري، والسخرية من الأوضاع الآسيوية والصينية، حدث الانتشار الأوسع والأشد تدميرًا للاقتصاد وإثارة للقلاقل الاجتماعية في الولايات المتحدة الأمريكية وأمريكا اللاتينية.
منطقة الشرق الأوسط - ونحن منها وفيها - أخذت حصتها الكافية من الوباء، وكان - بدون مجاملة - أداء السعودية والإمارات والكويت أفضل من كل دول الشرق الأوسط وتركيا وإيران.
وما زال الوباء في حالة مد وجزر في كل العالم.
إذن ما الذي يترتب على هذه المعطيات على دول العالم (محليًّا وكونيًّا) من استنتاجات؟ أزعم كطبيب يمارس الطب منذ خمسين سنة، وكقارئ حريص للتاريخ الصحي العالمي، أنه لن تتم السيطرة على هذا الوباء وما سيتبعه من أوبئة محتملة إن لم تُتخذ التطبيقات الآتية:
أولاً: حل مشاكل الفقر الطبقي والتكدس السكاني البائس وعشوائيات الإقامة والأسواق والتجارة الغذائية ومساوئ عولمة الاستقدام.
ثانيًا: الاهتمام المخلص بصحة البيئة المدنية السكانية وصحة البيئات الفطرية خارج المناطق السكنية.
ثالثًا: ترشيد التواصل السياحي الفوضوي وضبطه باحتياطات صحية تراعي ظروف كل دولة على حدة قبل تحقيق المكاسب المالية من السياحة التجارية الفوضوية.