أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
ارتبط الزيُّ في المخيال الشَّعبي بدرجة الإنسان في التحضُّر والتفوُّق. وربما عبَّر، قبولًا ورفضًا، عن عُقَد نقصٍ - حسب علم اجتماع الحضارات - يجعل اللاوعيَّ الشخصيَّ والجمعيَّ يوهِم بعضَنا أنَّ الداء في ما يُلبَس. آية ذلك أنَّ لبس البِذلة الغربيَّة ظلَّ يُشعِر الرجل الشرقيَّ بالنشوة؛ فيخيَّل إليه أنَّ ما في رأسه قد صار كالذي في رؤوس الفِرِنْجة؛ لمجرد ارتداء تلك البذلة التي يلبسونها، ولاسيما مع ربطة العُنق، إنْ كان متطلِّعًا إلى مستوًى أرقى في السُّلَّم الاجتماعي. هذا على حين قد يتوارى المتفرنج حياءً من لباسه الشرقي.
قلت لصاحبي المشاكس (سيف بن ذي قار)، وهو يلقي عليَّ هذا الشؤبوب النقدي:
- لا اعتراض لي إلَّا على ذال «البِذلة»، المنقوطة مع كسر الباء!
- قال: أما إنِّي على مذهب (المرتضَى الزَّبيدي -1205هـ = 1790م).
- وما مذهبه؟
- مذهبه جاء في «تاج العروس»، حيث قال: «وقولُ العامَّة: البَدْلَة، بالفتحِ وإهمالِ الدال، للثِّياب الجُدُدِ، خَطأٌ مِن وُجوهٍ ثَلاثةٍ، والصَّواب بكسرِ المُوحَّدة وإعجامِ الذال، وأنه اسمٌ للثِّيابِ الخَلَقِ، فتأمَّلْ ذلك!».
- لكنَّك أبقيت الوجه الثالث. وهو أن البِذلة للثياب الخَلَق، فتأملْ ذلك!
- قد تأمَّلتُه، لكن ما لا يُدرَك كلُّه لا يُترَك جلُّه.
- دعنا من هذا، جُلِّه وكُلِّه، وعُد بنا إلى الموضوع!
- كذلك وَقَرَ في ذهن المرأة العربيَّة المتخلِّفة - ولا أقول الشرقيَّة هنا؛ لأنَّ الحالة عربيَّة بنحوٍ أعوص - أنَّ سِرَّ التفوُّق يكمن في أن تَعرِض بشرتها، جلَّها، للهواء الطلق! في غفلةٍ عن أنَّ الحِجاب حِجاب العقل، كما أن العورة عورة العقل، غطَّينا الجسم أم كشفنا. والغريب أنَّ مثل هذا المنطق في حقِّ المرأة يسوَّق ممَّن لا يسأمون من ترديد اتهام الطَّرَف الآخَر بـ»الذُّكوريَّة»! وهم، بناءً على هذا الحَوَل الفكري، يرون أنَّ الزَّوج (ذُكوريٌّ)، مضطهِدٌ زوجَه، إذا أحبَّ أن يراها محتشمة، أمَّا إنْ هو رضي بعكس ذلك، فهو (متحرِّر، ويُمنَح من قِبَلهم الشهادة اللا ذكوريَّة)! هكذا تلقائيًّا.
- خير الأمور أواسطها.
- صحيح. أ ولا ترى أيضًا أنَّ هؤلاء - وَفق حالتهم المشخَّصة آنفًا - يظلُّون صُمًّا بُكمًا عُميًا عمَّا حقَّقته المرأة في (المملكة العربيَّة السُّعوديَّة)، مثلًا، من نجاحات حقيقيَّة، تفوَّقت بها على بعض شقيقاتها العربيَّات؟ رغم الجأر المتواصل بأن المرأة هنا مضطهَدة، مهمَّشة، مُقصاة... إلى آخِر المسلسل، قياسًا إلى البلدان التي تُوصَف بأنها أكثر انفتاحًا وتخفُّفًا من القيود الاجتماعيَّة.
- أتُنكِر أن المرأة ما زالت تستحق تمكينًا أكثر وأكبر، بوصفها إنسانًا، ومواطنة؟
- كلَّا. لا أزعم أن المرأة في المملكة قد نالت جميع حقوقها وطموحاتها.
- إذن؟
- إنما أرى أن الحملات حول المرأة في السعوديَّة - التي تعيش في إطار تقاليد، يصفها بعضهم بأنها سقيمة - لا تَسمع عادةً إلَّا ما يُطرِبها، ولا تروِّج إلَّا لما يصبُّ في اهتماماتها، ويدعم أطروحاتها.
- كيف، يا سَيف؟
- كيف.. هي لا تَذكر شيئًا عن سعوديَّات منقَّبات كثيرات من طبيبات، وأكاديميَّات، وباحثات، وعالمات، وسيِّدات أعمال، لم يُعِقهن ما اخترن من زِيٍّ عن الوصول إلى أعلى المراتب، عِلميًّا وعمليًّا، محلِّيا وعالميًّا.
- هناك في المقابل أُخريات ارتضين السُّفور، يحظين بمثل تلك المراتب.
- صحيح. ما أعنيه أنَّ ثمَّة مَن توقَّفت هِمَمُهنَّ عند هذه النقطة.
- أيَّة نقطة؟
- نقطة الخيوط والأقمشة، والبِذَل - سواء أخذناها بمعنى الثِّياب الجُدُد أو الخَلَق - لأنْ ليس وراء ذلك شيءٌ لدَى أولئك، لا من المواهب ولا من العلوم! والمؤدلجون الذين أُشير إليهم لا يلتفتون - كعادتهم - إلى النوع الأوَّل من النساء، ولا يمكن أن يَذكروا أسماءهن، ولو استطاعوا أن يمحوا وجودهن لفعلوا؛ لأنهن يُثبِتن واقعيًّا سطحيَّة ما يروِّجون لفظيًّا، وفهاهة ما يُمنطِقون ويُقايِسون ويُنظِّرون.
- أو بالأصح يكشفن النقاب الحقيقيَّ عن أن أغراضهم لا تعدو الرغبة في أن تغدو المرأة كما يحلو لهم، حسب نمطٍ خارجيٍّ مظهريٍّ، وَقَر في عقولهم ونفوسهم أنه السبيل الأوحد، والخيار النهائيُّ الذي لم يَتوصَّل عمُّهم (كيرياكو) إلى خيرٍ منه.
- هو ذاك. وأَعْزِزْ عَلَيَّ بما تُستلَبُ المرأة! وكما يَستورِد المستلَبُ أشياءه يَستورِد صوره النمطيَّة أيضًا، ومفاهيمه الاجتماعيَّة، وطرائقه في القياس والتقييم.
- لكن ألا ترى - بواقعيَّة - أن مظاهر التديُّن، والأصالة، والعُروبة، ما زالت لدينا مظاهر خارجيَّة، فيما ترقَّى الأمر لدَى الآخَر - الملعون - إلى المَخْبَر لا المَظْهَر؟
- بلى، أرى. وأزيدك من الشِّعر بيتين. إنَّ الرؤساء الأميركيِّين أنفسهم، على سبيل النموذج، رجالُ دينٍ، وإنْ نفاقًا، ملتزمون، لكنَّ تديُّنهم له مظاهر أخرى. وهي في الغالب - إذا استثنينا الطاقيَّة اليهوديَّة، التي يجب أن يلبسوها جميعًا في بدايات عهودهم لتَثبيت إيمانهم، وولائهم الصهيوني، وحُكمهم لهنود العالَم الحُمْر والحُمُر - مظاهرُ عمليَّة، وممارساتٌ فعليَّة، تعبِّر عنها الأفعال، لا الأقوال، ويُنظَر فيها إلى ما تُخفي الصدور، لا إلى الشَّعر الطويل، أو الثوب القصير!
- كفانا الله، إذن، «تلبيس إبليس»، من كلِّ نوع ولون، بـ»هدوم أو من غير هدوم»!
** **
(1) انظر: العكش، منير، (2009)، أميركا والإبادات الثقافية، (بيروت: رياض الريس)، 41.
(2) انظر: (1986)، مُوسَى والتوحيد، ترجمة: جورج طرابيشي (بيروت: دار الطليعة)، 146.
(العضو السابق بمجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود)
p.alfaify@gmail.com
https://twitter.com/Prof_Dr_Alfaify
http://www.facebook.com/p.alfaify