عبد العزيز الصقعبي
لم أجد عذرًا مقعنًا أقدمه لصديقي الذي طلب مني المشاركة في ندوة عن العزلة وفوائدها، أنا لا أحب مطلقًا تلك الندوات التي يحكمها الوقت وتأخذ طابعًا رسميًا، إضافة إلى أن المشاركة ستكون عبر تطبيق بإمكاني استخدامه عبر هاتفي الذكي المحمول أو من خلال الحاسب الآلي، أرسل لي ذلك الصديق عبر وسيلة التواصل الاجتماعي الرابط، وطلبتُ من ابنتي أن تفتح الرابط في حاسبي المحمول، بعد أن اخترت مكانًا مناسبًا في مكتبي إضاءته جيدة لتتضح صورتي وخلفي جزء من مكتبتي، وطلبت منها أن تحضر لي كوب ماء، وشاي، كما علمت أن الندوة مدتها قرابة الساعتين، جلست وتأكَّدت من وضوح صورتي التي التقطتها كاميرا الحاسب، ارتديت على عجالة ثوبي الأبيض ولبست شماغًا ووضعت عليه العقال، لا بد أن أكون فعلاً بصورة رسمية ولو كنت في بيتي، لا أدري كم سيتابع هذه الندوة، ومن هم، ولكن كما قال لي الصديق هنالك مئات سيتابعون هذه الندوة وربما أكثر لوجود عدد من المبدعين والمبدعات سيتحدثون، هيأت نفسي للمشاركة، وطلبت من ابنتي أن تغلق باب المكتب علي خوفًا من دخول أحد وأنا أتحدث لكيلا يقطع أفكاري، أو يشوش علي، وبالذات أبناؤها الأشقياء الذين أكون ضعيفًا أمام سطوتهم.
أنا هنا وحيد في هذه الغرفة مستعد للمشاركة بعد أن تواصلت مع الصديق ليتأكَّد من وضوح الصوت والصورة لدي ولديهم، دقائق وتبدأ الندوة، حقيقة، الحديث سيدور عن العزلة وفوائدها بالذات في هذه الأيام، وأنا لدي رأي مخالف، ما نعيشه الآن بسبب انتشار الوباء، هو حجر وليس بعزلة، لأن العزلة يختارها المبدع، ويكون مهيأ نفسيًا لأن يعتزل الجميع ويتفرغ لإبداعه، وليس كل كاتب يختار بيته ليعتزل، بل هناك من يختارون أمكنة هادئة وبعيدة عن صخب العائلة والقنوات الإعلامية والأخبار المزعجة، لدي كلام كثير سأقوله في هذه الندوة عن ذلك وبعض الأمثلة، وأنا في انتظار البدء، لن أكون المتحدث الأول، ولا الثاني، ولكن سأكون الثالث، ثم بعد أن ينتهي جميع المشاركين والمشاركات، سأكون مهيأ لأي سؤال يوجه إلي.
بدأ الصديق مرحبًا بجميع المشاركين رجالاً ونساء، تحدث بإسهاب قليلاً عن موضوع الندوة، الصورة كانت واضحة والصوت بدأ يخفت قليلاً، ثم ما لبثت الصورة تهتز، أنا بعيد قليلاً عن الحاسب لم أعبث به، توقعت أن مشكلة تقنية لديهم، الصديق يتحدث، بعد ذلك بدأت تتداخل الأصوات، أعرف أغلب المشاركين بالندوة، صورهم كانت واضحة رجالاً ونساء، لكنها بدأت تتلاشى مع صورة وصوت الصديق، ثم تداخلت الأصوات مما جعلني لا أفهم ما يقولون، لكن كانوا فيما بدا لي أنهم مثلي ملتزمو الصمت، ولكن الصخب الصوتي يطغى، تتغير صورهم، بصور باهتة، ليست ملونة ولكن بالأبيض والأسود، تأكَّدت من أن المشكلة ربما من التطبيق، ربما ينهون أو يؤجلون الندوة حتى يتم حل تلك المشكلة التقنية، هاتفي المحمول بجانبي في انتظار اتصال من الصديق، ولكن لحسن الحظ بدأت الصورة فقط تتضح، ولكن لا يزال الصوت غير واضح كأنه يخرج من أعماق بئر، أصوات رجال ونساء، متداخلة، لم أركز بالبدء بالصور، حيث ارتشفت قليلاً من الشاي الذي أعدته ابنتي، بالطبع من دون سكر، وبدون نعناع، أعود وأطالع شاشة الحاسب، صديقي غير موجود، الأصوات متداخلة وغير واضحة مطلقًا، صورتي بدأت تتضح في مربع صغير أقصى اليسار، لكنها واضحة لي ولمن يتابع الندوة، لكن صورة صديقي غير موجودة ولا بقية المشاركين، هنالك آخرون وأخريات، هم أمامي الآن، هل تداخلت برامج التطبيق لينقلني إلى ندوة أخرى، لا أعرفهم، ولكن ملامحهم غير غريبة علي، يا إلهي، ماذا أرى، غسلت وجهي بقليل من الماء سكبته من الكأس الذي أحضرته ابنتي، بارد قليلاً، ولكن أريد أن أرى بوضوح، وها أنا أرى، صورتي، ولكن في الجانب الأيمن أشاهد والدي -رحمه الله- يتحدث أمامي ويبتسم، تكبر الصورة ثم تعود لوضعها الطبيعي، ماذا أصابني، لا أسمع ما يقول، مربع في أقصى اليمين، بجانبه صديق فقدته منذ سنوات، وعم، وابن عم، مجموعة موتى، قلبي يخفق بقوة، بجانب والدي من اليمين أرى والدتي رحمها الله، لم تتكلم بل كانت تبتسم صامتة، لا أرى حولي في هذه الندوة إلا موتى، أشتاق إليهم كثيرًا، أريد أن أتحدث معهم، أقبل رأس والدي، جميعهم مبتسمون، ويتحدثون، ولا أعرف عن ماذا، أعود وأشرب شايًا، أقف وأتحرك بالغرفة، أريد أن أنادي ابنتي وأقول: انظري ها هم.. إنهم بخير عند رب العالمين، ولكن لا أريد أن أنكأ جراحها بمشاهدة رفيق عمرها والد أبنائها الذي استشهد منذ أشهر وهو يدافع عن الوطن، أريدأن أقول لهم، نحن بخير، ولكن حل وباء بعد رحيلكم، وأبعدنا عن الآخرين، أريد أن أبكي، أربعون سنة منذ أن غادر والدي إلى الحياة الآخرة ولحقته أمي بعد عشر سنوات، لكم اشتاق لكما، لكم اشتاق لكل من أمامي يتحدث ويبتسم من أقارب وأصدقاء، لكم اشتاق للحياة، مثلكم.
أسمع صوت ابنتي وهي تناديني، انتبه، أنظر لشاشة الحاسب، كانت سوداء، تقول لي «صديقك اتصل.. حاول أن يتصل بك أكثر من مرة ولكن هاتفك على الصامت.. لماذا لم تشارك بالندوة على الرغم من وجودك في البداية».