يمكن القول ابتداءً إنَّ مصطلح (الأنافورا) يحيل إلى طقوسٍ دينيةٍ قديمة؛ فهو يعني في الميثيولوجيا اليونانية المقدمة أو التقدمة أي تقديم القرابين؛ فالشقّ الأول منه (أنا) يعني إلى فوق أو إلى أعلى، والشِّق الثاني (فورا) يعني يُقدِّم أو يرفع، وكلمة (أنافورا) عند السريان والموارنة تقابلها كلمة (قداس) عند الأقباط كما تشير إلى ذلك كثيرٌ من الدراسات ذات المنحى الثيولوجي. ثم تحوَّل هذا المصطلح إلى حقل النقد الغربي؛ إذ أصبح يشير إلى التكرار المتموضع في مقدمات الجمل أو الفقرات. وقد أشار صلاح فضل إلى هذا المصطلح؛ إذ ذكر أنَّ (الأنافورا) من التقنيات البلاغية المتواضع عليها في النقد الغربي، نافيًا أن يكون لها مُقابِلٌ اصطلاحيٌّ في تراثنا العربي؛ مما حدا به إلى تسميتها «تقفية البدايات» التي يقصد بها تكرار كلمة أو أكثر أولى الجمل أو الفقرات.
والحقّ أنَّ مَن يعيد النظر في الدرس البلاغي العربي يجد أنَّ نفْيَ صلاح فضل وجود مقابلٍ للأنافورا في نقدنا العربي يحتاج إلى إعادة نظر؛ فقد ورد هذا النوع من التكرارات في عددٍ من المعاجم تحت مسمَّى (تكرار الصدارة) كما عند مجدي وهبة وكامل المهندس في معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، وعند محمد التونجي في المعجم المفصل، وكلا المعجمَين يتفق على أنَّ (تكرار الصدارة) لا يعدو أن يكون تكرارًا للكلمة أو الجملة أو العبارة نظمًا أو نثرًا لغايةٍ إيقاعيةٍ بلاغية، مستحضرين العبارة المكرورة في بداية الحديث الشريف: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت...». كما نجد هذا المعنى الاصطلاحي (للأنافورا) قبل ذلك عند (نازك الملائكة) تحت مسمَّى (تكرار التقسيم)، ذلك التكرار الذي تراه يتموضع في أولى المقطوعات، خاصة المقطوعات الشعرية.
ومهما يكن من شيء فإنه يبقى لفضلٍ فضلُ السبق والريادة في اجترار مصطلح (الأنافورا) من أحضان النقد البلاغي الغربي، واستنطاقه ومساءلته، وسكِّ مُصطلحٍ مُقابلٍ له، أطلق عليه (تقفية البدايات). وقد عدَّ فضلٌ كتابَ (الأيام) نموذجًا متفرِّدًا لهذه التقنية؛ إذ يرى أنَّ طه حسين قد وظّفها بإلحاحٍ من خلال تكرار (فعل التذكر) الذي تموضع بشكلٍ لافتٍ في بدايات الجمل والفقرات. بيد أنَّ المُحدِّقَ في (فعل التذكر) يلحظ أنه لم يؤطِّر صفحات الكتاب ليمثِّلَ خطًّا عامًّا ومتوالية لفظية متواترة، وإنما تبدَّى في جملٍ وفقراتٍ جزئية مُفتَقِرًا إلى الديمومة والتنامي، بل يمكن القبض على كلمات وجملٍ قد تجاوزت في تكرارها (فعل التذكر)، ومن ذلك: الفعل الناسخ (كان) الذي شكَّل تكرارًا مهيمنًا في بدايات الفصول والفقرات؛ إذ تواتر في أثناء الكتاب أكثر من 300 مرة، وهو إيقاع تكراري لم يأتِ مُنبتًّا عن السياق، وإنما جاء متناغمًا مع تقانة الارتداد إلى الماضي (الفلاش باك)، ومنسجمًا مع أفق السيرة الذاتية المسرودة بضمير الغائب.
وهذه الجولة العجلى لن يكون هاجسها المحوريُّ الاعتكافَ في محراب «السير ذاتي»، ولا دقّ أوتاد الموازنة في فضاء الكتابين بصورة بانورامية، وإنما همّها استجلاء نموذجٍ سيريٍّ سعوديٍّ يتصادى مع كتاب الأيام في الاتكاء على تقانة الأنافورا المُتوسَّل بها لتحقيق غايات فنية وجمالية. وقد ألفيتُ كتاب (40 في معنى أن أكبر) لليلى الجهني نموذجًا فريدًا وسحابًا ثرًّا قد جاد بهذه التقنية على نحوٍ أشدّ جلاءً وأكثر نصاعةً مما في كتاب الأيام الذي عوَّل على هذه التقنية ولكن بشكلٍ جزئي.
إنَّ الناظرَ في نصِّ الجهني يتراءى له منذ الوهلة الأولى البُعد الأنافوريّ والتكرار التصديريّ الذي حطَّ برحاله في فضاءات السرد؛ فقد انفتح المحكيُّ بجملة (إنني أكبر)، وظلَّت هذه الجملة متواترةً بلفظها في مقدمات الفصول الثمانية والعشرين كلها، ولم تبرح تطلّ برأسها في المساحة النصيَّة من فاتحة المحكيِّ حتى خاتمته؛ مما يمنحنا انطباعًا أوليًّا مؤدَّاه أنَّ هذه اللازمة المتواترة ليست مجرَّد صنعة بديعية أو زخرفة مجانية، وإنما هي لازمةٌ مصبوغةٌ بألوانٍ نفسيةٍ وأيديولوجية، وناهضةٍ بوظائفَ بنائية وتفسيرية. فعند التحديق في اللازمة الأنافورية (إنني أكبر) نلحظُ انبجاس المدّة العمرية من ثناياها، وهي سِنّ الأربعين كما أفصح عنها المبنى الحكائي صراحةً، فضلاً عن تمظهرها في عتبتَي العنوان، وخطاب التصدير العابق بشذا الآية القرآنية. ولعلَّ السؤال الذي يقرع أبواب قراءتنا هاته يتمثَّل في: ما الغاية من التوقيع على ثيمة الكِبَر وسِنّ الأربعين تحديدًا؟ وهل شكَّل بلوغ الأربعين عبئًا على الذات الساردة أم فاحت منه رائحة الدعة والرضا؟
ينبغي التذكير ابتداءً أنَّ سِنَّ الأربعين - كما حُفرَتْ في ذاكرتنا الدينية ووعينا الثقافي - هي سِنُّ القوة والنضج والنماء والخصب، وهو ما تبدَّى لنا في عوالم النسيج السردي؛ غير أنَّ سِنّ النضوج هذه بحمولاتها المعرفية والأيديولوجية قد استحالت قلقًا ألقى بظلاله على الذات الساردة التي انشطرت ورزحت بين عالمين اثنين: عالم ما قبل الأربعين حيث الخواء والانحسار وضيق الأفق، وعالم الأربعين حيث الامتلاء الأيديولوجي والمعرفي، ورحابة الوعي وتحوُّره، ومساءلة الذات والكون والحياة. تقول الساردة: «إنني أكبر. ما كتبته في العشرين لا يشبه ما أكتبه الآن، وما أفهمه الآن من: شرق المتوسط، ليس ما فهمته منها عندما قرأتها أول مرة.. أحلامي صارت ثقيلة وغريبة.. عيناي غائرتان لطول ما قرأتُ وأوجعتني المعرفة». فنحن إذًا إزاء ذاتٍ قلقةٍ متشظِّيةٍ لم تمنحها سِنُّ الأربعين شرعية النضج والانتماء والاقتراب بمقدار ما صبَّتْ عليها أسواط النأي والانكفاء والاغتراب، وكأنما عُلِّقت على جدران رُوحِها لوحةٌ تهتفُ مُردِّدَةً: المعرفة قلقٌ والوعي عذاب.
إنَّ اللازمة الأنافورية (إنني أكبر) التي أطلَّت برأسها على امتداد فصول وفقرات النَّصّ لا تعدو أن تكون عِلَّةً سرديةً أسَّست لما بعدها من أحداثٍ ورؤى؛ فالكِبَرُ وبلوغُ الأربعين تحديدًا صبغ الذاتَ الساردةَ بألوانٍ من التأمُّل المشوب بالحسرة والتشاؤم، وأسهم في خلخلة بنيتها النفسية. إنها ذاتٌ لم تقف على الأطلال باكيةً بقدر ما وقفتْ عليها ضاحكةً مُتسائلة؛ وكل ذلك قد تبدَّى عبر تناوبٍ إيقاعيٍّ نهضتْ به مجموعةٌ من الثنائيات داخل المبنى الحكائي: المعرفة والجهل / الوعي والغفلة / العمق والسطحية / الموت والحياة / الحرب والسلم / الأمن والخوف / الصمت والكلام / اللقاء والافتراق / الشك واليقين ... وتتوالى هذه الثنائيات عبر بوحٍ ميلودراميٍّ صاخب لتكشف لنا هشاشة الذات - على الرغم من صلابة الوعي وعلو نبرة النضج - وتشظّيها على عتبات الأربعين. ولا تكاد تُذكر موضوعة الكِبَر إلا مؤطَّرةً بسلسلةٍ من المفردات المنتمية إلى معجمٍ مسكونٍ باليأس والتراجيديا والنزعة الجنائزية؛ تقول الساردة: إنني أكبر، وأفكر في أنني أقترب من الموت، إنني أكبر، وأميل إلى الصمت، إنني أكبر، وأزداد مرضًا، إنني أكبر، ونومي يضطرب، إنني أكبر، وأغدو أكثر هشاشة، إنني أكبر، وأميل إلى الوحدة، إنني أكبر، وأفكر في أنني بشر مثلوم...
ومن هنا يتَّضح لنا بجلاء أن التوقيع على لفظة (الكِبَر) قد نهض بوظيفة بنائية من خلال ربط الوحدات المحكية والتوليف بينها برباطٍ واحدٍ مُترعٍ بأنفاس اليأس والحسرة والألم، كما أسهم التكرار باستدراج القارئ وشدّ انتباهه، وحقنه بجرعاتٍ من تشويقٍ لا تفتأ تنفخ في روحه سؤالاً مُلحًّا: ما الذي سيُحدثه الكِبَر؟ كما نهض التكرار بوظيفة تفسيرية - وكأنه فتح السبيل لما يتلو على وفق تعبير أرسطو - إذ تُوسِّل به لإضاءة نفسية الذات الساردة وما يعتلج فيها من رؤى وأفكار، فضلاً عن تبيان نظرتها إلى الواقع والحياة والوجود. ولعلَّنا حين نُطلُّ على تكرار الصدارة (الأنافورا) من نافذة التفكيك، ونُعمل مبضع التشريح في بنياته الصغرى تتكشَّف لنا معالم الانسجام والاتساق بين صيغة التكرار والرؤية الذاتية القارَّة في أعماق النَّصّ؛ فجملة (إنني أكبر) التي تمثِّل الحكاية الأولى - بحسب جينيت - يتماهى فيها المسند (أكْبُرُ) بالمسند إليه (ياء المتكلم) المؤكَّد بالحرف الناسخ ليلفي القارئ نفسه إزاء هاجس الكِبَر الذي هيمن على الذات الساردة، وخلق نوعًا من القلق والألم والحسرة، ولاسيما أنَّ المسند / الخبر (أكْبُر) قد جاء بصيغة المضارع؛ ما يشي بتضاؤل الثبات والإستاتيكية لحساب التبدُّل والديناميكية التي فرضت سيادتها على تلك الذات. كما أنَّ الجنوح إلى الفعل المضارع في جملة (إنني أكبر) أغنى دلالةً فيما لو كانت الجملة (إنني كبرتُ)؛ ذلك أنه من المعلوم من النقد الروائي بالضرورة أنَّ الاتكاءَ على صيغة الماضي يوحي بانقضاء الأحداث وانتهائها، بينما تُسهم صيغة المضارع في مسرحة الأحداث بصورة آنية ومستقبلية وكأن الكِبَرُ لا يزال قائمًا وممتدًّا؛ مما يجعل القارئ يعيش اللحظة عينها التي تعيشها الذات الساردة بوصفه شريكًا لها في تجربتها العمرية المسكونة بالقلق والتساؤل؛ فكأنَّنا إذًا إزاء نوعٍ من الهندسة العاطفية - بحسب تعبير نازك الملائكة - إذ تحاول الساردة من خلال التكرار أن تُشيِّدَ بينها وبين القارئ جسورًا تُغذِّي مفاصلَ السارديَّةِ، فضلاً عن التعويل على ضمير المتكلم الذي يعزِّز أواصرَ الرَّحمِ التفاعليِّ بينهما.
وزُبدَة القول في (الأنافورا) أنها تقانة بلاغية وأداة شعرية يتكئ عليها الأديب ليحقق من خلالها غاياتٍ فنية وجمالية، ودلالاتٍ نفسية وأيديولوجية. وتتمثَّل الأنافورا في تكرار مفردة أو جملة أو عبارة في فواتح الفقرات والفصول في النَّص الأدبي، سواء أكان التكرار جزئيًّا محدودًا كما في أيام طه حسين، أم ممتدًّا متواترًا مُنتظم الإيحاءات والدلالات كما في أربعين ليلى الجهني.
ولعلِّي - قبل الختام - أشير إلى أنَّ هذه التقانة لا تزال بحاجةٍ إلى دراساتٍ معمَّقةٍ تقتفي أثرها، وتقرع معالمها، وتستمطر غاياتها الثاوية في سماوات النصوص السردية.
** **
د . منصور بن محمد البلوي - أكاديمي بكلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة