قبل بضع سنوات لقيتُ في إسطنبول أثناء دورةٍ علميةٍ شيخَ مشايِخنا الأستاذَ الدكتور اللغويّ فخرَ الدين قباوة - حفظه الله - وتحدّثنا عن المخطوطاتِ العربيةِ القديمةِ المبكرة، فقرع الدكتور سمعي برأيٍ له حول النّقط والإعجام، خلاصتُه أن العربَ عرفت النقط على الحروف قبل مدرسةِ يحيى بن يعمر (ت 129 هـ؟) ونصر بن عاصم الليثي (ت 89 هـ) التي وضعت نقط الإعجام -رحمهم الله جميعاً، فناقشناه أنا وأحدُ الأساتذةِ الفضلاء، مستندين على روايات التراث، وعلى خطوطِ المصاحف القديمة... ولم يقتنعْ بما قلناه، بل حاول في عجالةٍ من الأمر أن يلخّص لنا رأيه الذي بدا لنا غريباً، اعتماداً على نقولٍ أخرى. ولم يكن وقوفنا معه مقصوداً وطويلاً، ولم يكن جزءاً من محاضرة؛ ولذا لم يتهيأ للأستاذِ العلامةِ إتمامَ هذه المناقشة بعرض شواهدِها واستحضارِ أدلتِها، ولكن تعجبنا من الرأي، خاصةً من رجلٍ طويلِ الباعِ في علوم العربية مثلِه، وأسِفْنا على أن لم يكن الوقتُ متاحاً لنا أكثر من ذلك لنستمع إليه، فانتهى الأمر عند هذه المباحثة.
ثم شاء الله - تعالى- أن اهتمّ بعضُ الإخوة الفضلاء من أهل المدينةِ المنورةِ اليوم بالنقوش الحجريةِ والصخريةِ الموجودةِ حول المدينة، في أوديتها وثنيّاتها ومواردِ مياهها ... وصوروها بها في حساباتهم على الشبكة، وخاصةً في تويتر، فرأيت شواهدَ كثيرةً لنصوصٍ مؤرخةٍ في القرن الهجري الأول. وبعضُها يعودُ إلى النصف الأول منه، مع بردياتٍ أخرى قليلةٍ كشف عنها الباحثُون في بعض كتبهم ومقالاتِهم ... ورأيتُ ورأى غيري في بعضها أحياناً شيئاً من علامات نقط الإعجام الذي يميز بعض الحروف عن بعضٍ.. وهذا تاريخٌ وعملٌ يسبق عمل العالمَين المذكورَين. وهو يشير بقوةٍ تجذبُ النظر إلى ما رآه العلامة فخري قباوة! فهل كانت الرواياتُ عن مدرسة القرن الأول اللغويةِ غيرَ صحيحة، أو أنها صحيحةٌ، وقد طوّروا نظاماً كان موجوداً، وسقط تفصيلُ ذلك من أذهان الرواة، أم أن للموضوع حكاية أخرى؟!
والكتابة العربية وتاريخُها محوطةٌ بعددٍ كبيرٍ من المشكلات العلمية المعقدةِ وبمقدارٍ غير قليلٍ الغموض؛ ففي المقامِ الأولِ ليس لدينا شواهدُ عديدةٌ تظهر لنا بوضوحٍ تامٍّ كيف كان حال الخطّ العربي قبيل الإسلام؛ فلم يكن العربُ يهتمّون بالمكتوبِ قدر اهتمامهم بالشفوي المحفوظ، مع أن عدداً لا بأس به منهم كانوا يكتبون، وليس الأمرُ كما يظنّ بعضُ الناس من أن العرب لم يكونوا يكتبون مطلقاً. وقدرٌ كبيرٌ من مشكلات الكتابة العربية يعود إلى موادّ الكتابة في بيئتهم الفقيرة الموارد؛ فلا نعرف مثلاً أن العرب في الجزيرة العربية استعملوا الرُّقُم الطينية كأبناء عمومتهم من البابليين والآشوريين، ولا البرديّات كالمصريين، ولا الكتبَ المدونةَ كاليونانيين والرومانيين لنجد أمامنا نصوصاً للدراسةِ ووثائقَ للتحليل والمناقشة ... وكل ما نراه اليومَ هو نقوشٌ صخريةٌ تظهر في الغالبِ أسماء ومدافن أحياناً أو نصاً غامضاً أو تملكاً ... ولا نعلم نصاً مكتوباً على هيئة كتابٍ قبل القرآن الكريم ... ولهذا فإن مشكلة تطور الكتابة العربية وتعقيداتها العلمية تمتدّ بظلالها لتصل إلى طريقةِ كتابةِ النصّ القرآني الكريم؛ فهناك كلماتٌ في القرآن اجتهد علماء الرسم وعلوم القرآن - رحمهم الله - في تعليل أسباب كتابة الصحابة -رضوان الله عليهم- لها بهذه الصورة؟ ومنها مثلاً: الصلوة والزكوة وبأييد ونحوها... وقد سعى العلماءُ لشرح لذلك، وبعض تعليلاتهم لا تزال موضع أخذ وردٍّ بين الباحثين والعلماء المسلمين وغيرهم ... ولا تزال هذه المعالجاتُ اللغويةُ مدخلاً لمن يطيبُ لهم بغير منهجٍ علميّ أن يثيرُوا الريبة في النص القرآن وأصوله وتاريخِه ... وهذا له حديثٌ آخرُ لعلنا نعود إليه - بإذن الله قريباً.
والمهمّ هنا بعد هذا القولِ الموجزِ أن نقول: إنّ مناطق المملكة وصحاريها كلّها، وخاصةً في شمال الحجاز وما حول المدينة وقرى الحجاز ملأى بنقوشٍ حجريةٍ عربيةٍ بخطوط العرب الشماليين لا بدّ أنّ تشعّ بشعاعٍ من الحقيقةِ على أمورٍ علميةٍ كثيرةٍ منها: أصل الخطّ العربي، ورحلتهُ نحو التقعيدِ والمنهجيةِ، وكيف كان، وكيف تدرّج في مراتبه التاريخية ... بل قد تفسّر لنا هذه الصخور النظم الكتابية والإملائية عند الأولين، وهذا مفيدٌ في الدراسات القرآنية نفسها. وفي هذه الكنوز المتواريةِ ما يمكنُ أن يكشفَ اللثامَ عن أمورٍ كثيرةٍ حضاريةٍ وتاريخيةٍ وأثريةٍ ... ولعلّ من الجيّدِ هنا أن نذكّر وزارات السياحة والثقافة والجهات المختصة بالآثار والبلديات في بلادنا الكريمة كلها بمواصلة حماية هذه النقوش الأثرية، وحفظها في مواقعها التاريخية، ثم رصدها وتوثيقها في كتالوجاتٍ متخصصةٍ توزع عبر العالم، ثم يجبُ أيضاً بعد ذلك أن تعدّ لها معارضُ خاصةٌ متحركةٌ ومعارض رقمية يُستنسخ فيها صورٌ موثقةٌ منها، كي تكون مادةً ثقافيةً وسياحيةً وعلميةً تُستجلب إليها الشخصياتُ العلميةُ من أنحاء العالم من المختصّين بذلك، ثم إن لجامعاتِنا ومتخصّصينا الأفذاذ دورٌ مهمٌ بعد ذلك في تصحيح قراءاتها وبيان مواقعها في سلم الحضارة والتراث العربي ...
وقد قدمت المدينة المنورة بوصفها عاصمة الإسلام الأولى، ومنطلق الإسلام نحو العالم جمعاً لكثير من هذه الموارد المهمة. وأعلمُ أن في همّةِ أميرِها صاحب السموّ الملكي فيصل بن سلمان بن عبد العزيز - وفقه الله - ما حرّك البدء بهذه المبادرة وفيه ما يشفي لدعمِ ما تمّ اقتراحه وتحقيقُه لهذه البلاد الكريمة كي يمتد الوعي منا نحو الخارج. طبتم وطاب يومُكم وغدُكم، وسلمتم من كورونا.
** **
- د. أحمد بن محمد الدبيان
arabic.philo@gmail.com