إن أكثر ما يؤلم في المشهد الكُردي، هو التساؤل الجوهري وسط آلام ومحن الأكراد ومآسيهم، لماذا لا يتصرف الأكراد كأمة. هذا السؤال يفرض نفسه تلقائياً في معرض ما يلاحظه المراقب للوضع الكُردي، في وجود جميع الإمكانات والقدرات والكوامن التي تتيح للكُرد أن يتصرفوا كأمة، لكنهم لا يتصرفون كذلك. إن الأمور غير السياسية تعطينا فكرة أوضح من السياقات والمسائل السياسية، في تقييم وفهم الواقع الكُردي، لكي نحصل على جواب واضح عن السؤال المذكور، في عدم ظهور الأكراد بمظهر الأمة التي تؤدي الدور المنوط بها والمفترض القيام به. منذ نحو ثلاثين عاما، يحكم الأكراد أنفسهم عبر أحزاب لهم ارتضوا لها أن تكون شرفات لتطلعاتها القومية والوطنية. ولكن في الواقع، ازداد الوضع الكُردي سوءا يوماً بعد آخر، دون توقف ودون عودة إلى الوراء، إلى حيث كان وضعهم سيئا قبل أن يتفاقم ويزداد سوءا بمرور الأيام.
في عالمنا المعاصر، وبفضل التكنولوجيا الحديثة، احتل الفن بشكل عام مكانة كبيرة ومؤثرة في حياة المجتمعات. ولعبت دور السينما والمسرح والتلفزيون دوراً كبيراً ومهماً في تقرير مضامين وملامح شعوب الأرض ومناحي تطورها ومجريات بلورتها. يقع الأكراد بين ثلاث أمم هي العربية والفارسية والتركية. للأكراد تأريخ طويل وزاخر وبطولي، ملئ بالقصص والأحداث العظيمة والمؤثرة التي تكفي لإنتاج أعمال أدبية وفنية عالمية تتجاوز الأكراد أنفسهم. فحياة عظمائهم، لا سيما ملوك الميديين، وصلاح الدين الأيوبي، والعلامة الكوراني (أستاذ محمد الفاتح العثماني)، والشاعر العظيم أحمدي خاني، وخالد النقشبندي، وبديع الزمان سعيدي نورسي، والملك محمود الحفيد، والشيخ سعيد بيران، والقاضي محمد وملا مصطفى بارزاني الخ، كل هذا وغيره كثير، مواد خام لإنتاج أعمال فنية كبيرة، لم يحرك الأكراد ساكنا باتجاهها منذ ثلاثين عاما، رغم وجود المليارات من الدولارات في أيدي أحزابهم وحكامهم. اقترحت ضمن ما اقترحت على حكومة إقليم كُردستان في عام 2006، بناء مؤسسة سينمائية وبناء كوادر فنية عبر بعثات دراسية إلى الغرب، للحيلولة دون بقاء الكُرد في موقع بدائي مقارنة حتى بجيرانهم الذين يعتبرون متأخرين مقارنة بالعالم المتقدم. لم تكن هناك آذان صاغية تسمع هذه المقترحات.
على مستوى آخر، نجد أن دول الجوار الكُردي تملك مؤسسات ومراكز أبحاث ودراسات حول الأكراد. كما أنها تخترق الداخل الكُردي بقوة وعمق. على العكس، لا يملك الكُرد مراكز دراسات وأبحاث حول جوارهم والجغرافية الأبعد منه، كمحاولة جادة لفهم الآخر ولفهم محيطهم لبناء نقاط انطلاق صحيحة ومتينة للعلاقة مع هذا الجوار بالشكل الذي يخدمهم. لذلك، فكثيراً ما تجد هذه العلاقة تشبه علاقة مجاميع عشائرية، متخلفة غير منتظمة ومتنافرة، بمراكز دول الجوار ذات سلطات ومؤسسات وحكومات. لهذا يتغذى الكُرد على ما ينتجه جيرانهم من أعمال فنية (أفلام ومسلسلات وبرامج تلفزيونية)، مع أن كنوز تأريخهم وتراثهم تعج بما يفتقر إليه جيرانهم على أصعدة، ولكن الافتقار الكُردي لإنتاجه مرض مزمن وقائم يتصل بوجودهم المرضي العقيم.
وكثيراً ما تشوب علاقة الكُرد بجوارهم، الفضيحة والفشل والعجز، التي تسبب الخجل والانكسار لنفسية الإنسان الكُردي. فمثلا، لم يتردد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في عام 2017، بُعيد الاستفتاء الذي أعلنه مسعود بارزاني، رئيس أقليم كُردستان آنذاك، أن يقول لبارزاني بصراحة واستخفاف أنه عاجز عن الاستقلال، وذكّره أنه اقترض منه مبلغ ملياري دولار لتسديد رواتب منتسبي حكومة إقليمه، مضيفا -والقول لأردوغان- من لا يستطيع دفع رواتب موظفيه كيف له أن يبني دولة مستقلة وعلى ماذا وبماذا؟ هناك الآلاف من هذه المواقف المخجلة والتي تضرب العنفوان الكُردي في الصميم، ولكن لم يحدث أن يشرع الأكراد في خطوة باتجاه معاكس لما ألفوه من الخفة والذل أمام جوارهم المتسلط عليهم.
حين يدقق المرء في المقارنة بين فحولة الأكراد وخشونتهم وسمعتهم القتالية، وهم يدنون من جيرانهم الأتراك والفرس المتزينين برجولة ناعمة ولبقة، مشرأبة لثقافتها وتأريخها، يدرك تماما أن القوة الظاهرية المفتولة ليست سوى بضائع الأنتيك التأريخية، قد نجدها في المسلسلات، وفائدتها الوحيدة هي تذكير الأجيال الناشئة بمعاني البطولة والفروسية لأجدادهم. خارج هذا السياق، لا يبدو للمظهر الخارجي الخشن للأكراد، والآخذ بسمعة القتال والبسالة أي دور في تقرير نتائج السياسات وحصاد الحكومات والدول. المشهد هنا ليس محصورًا في هذه المقارنة الظاهرية، بل يتعداها إلى طرائق الحياة ونظم الوجود الكُردي المتجذر في انقسامات عشائرية ومناطقية ولهجوية شديدة الحدة في شرذمتها، ومنيعة على التواصل بسبب خصوماتها، وغليظة على فك عقدها، بُعداً منها وغوراً في كينونتها المبنية من طينة القبلية وعرى العصبية للجماعات النائية والمستعصية على مجريات التطور في الحياة المعاصرة التي تقف عاجزة على اختراقها، إلا بوسائل التواصل التكنولوجي التي تزيد الغلظة والانعزال النفسي لوجودها المؤلم أساساً. حتى التكنولوجيا أضافت إلى انقسامات الأكراد انقساما أكثر ووسعت الشقاق بينهم.
في هذا الواقع كان الأكراد بحاجة إلى قوة مركزية لهم، تستقطب جميع القوى الأخرى العشائرية والقبلية، لتتحول إلى وسط جاذب لمجاميع الكُرد كالقطب من الرحى. ومن هنا، كان من شأن هكذا قوة أن تبني وتوطد أسس ومعاني الوجود القومي والوطني الكُردي، على شتى المستويات الثقافية والفنية والسياسية والاجتماعية، لتعطيها المعاني العميقة والزاخرة التي تزود الشعور الجمعي الكُردي بالقوة والتضامن والانتماء. كانت القوة البارزانية تحمل في ثناياها هذه الكوامن، لكنها للأسف لم تتحول إلى هذه القوة المركزية للأكراد. هناك أسباب كثيرة حالت دون تحول البارزانيين إلى قوة كُردية مركزية، على المستوى القومي والوطني. فالبارزانيون لديهم مشاعر قبلية مغلقة تَنْصِبُ العداء للآخرين من الأكراد، أو على الأقل تنفر من خارج محيطها القبلي (أي داخل الدائرة الكُردية). ومن إفرازات هذا الواقع، تجدهم يمنعون منعاً باتاً مصاهرة الآخرين من الأكراد معهم، إلا ما ندر، ولظروف قاهرة. هذا العداء أو النفور تجاه المحيط الخارجي للبارزانيين، داخل الوجود الكُردي المنقسم والمتشرذم، ليس مرده إلى استعلاء ثقافي، بل إلى انغلاق سلبي هو وليد واقع قديم لقرون سالفة، كان يجد الطمأنينة والأمن والبقاء في الانعزال والحماية ضمن عرى القطيع: قطيع الجماعة الصغيرة. فالجماعات الصغيرة التي كانت تستقر وتتحرك في تضاريس وعرة، لم ترتسم لها في هذه الجغرافية سمات مشتركة، في ثقافة مشتركة، متاحة للكائنين في تلك الأصقاع الشاسعة والجبلية والساحرة حقاً. نعم هناك قيم وثقافة مشتركة بين مجاميع الأكراد، لكن هذه القيم والثقافة المشتركة في جلها، بقيت مادة خام، بدل أن تتحول إلى مفاصل وأربطة لتوحيد الوجود الكُردي عبر نتاج مشترك ومتجانس في الفن والأدب والتراث. لقد ولدت أعمال ثقافية وأدبية عظيمة بين هذه المجاميع، لكنها في الواقع ظلت محصورة بمناطقها المنعزلة، ولم تتحول إلى العصب الذي يربط هذه المجاميع في هذه الجغرافية الواسعة والمنعزلة المسمى تأريخيا ووجوديا بكُردستان. بل إن بعض هذه الأعمال الأدبية مات حتى في المنطقة التي نشأ فيها، مثل الملحمة الأدبية لأحمدي خاني التي لا تجد بين الكُرد في تركيا من يقرأها ويفهمها، اللهم إلا نفرا قليلا يعدون على أصابع اليدين. وبقيت العصبية القبلية والتخاصم والمنافسة والنزاع، تلك الروابط التي أسست بطبيعة الحال المشتركات الحتمية بين مجاميع الكُرد.كن هذا الاشتراك ولّد دوما روابط سلبية بينهم، تشبه الحدود الملتهبة، التي تفصل وتفسخ وحدتهم القومية والوطنية. أي أن المفارقة في مشتركاتهم هي أنهم بدل الوحدة ينقسمون، وبدل التواصل والتعاون يفترقون ويتخاصمون.
شاء الله أن تتيح للبارزانيين فرصة لعب هذا الدور المنشود والمنتظر لدى الأكراد، وأتيحت لهم الإمكانات والقوة، لكن هذا الدور لم تظهر بوادره، فتحول البارزانيون إلى قوة محلية داخل وسطهم ولكن أقوى من باقي القوى الصغيرة والمشتتة، فلم يبلغوا إلى مصاف أولئك الذين يلعبون الأدوار العليا داخل شعوبهم، للارتقاء بهم نحو سدة الوحدة والتضامن والاستقلال. ما أسهم في هذا الفشل هو ما قام به الآخرون من الكُرد، في تشكيل جماعات سياسية مناهضة للعائلة البارزانية، مما زاد في تشتيتهم أنفسهم، وزاد في حدة وخصومة البارزانيين تجاه محيطهم، ودفعهم نحو المزيد من العزلة والحس الأمني الخائف من محيط معاد، يحمل الخطر تجاه هويتهم القبلية ووجودهم كجماعة مقاتلة، لها منافسون كثر. فأمست العائلة البارزانية تعتمد على من يوالونهم كحماة مسلحين، مقابل دعمهم ماليا والذي يسمى في الأعراف السياسية بالارتزاق. وفي هذا المضمار، تحولت المفاهيم المتصلة بالهوية الكُردية وطرائق تطويرها إلى أمور مبتذلة لا قيمة لها. وكان الأولى بهذه الجماعات (وأولها الجماعة التي أسسها جلال طالباني ورفاقه) أن تلتف حول البارزانيين، للاستفادة من قوتهم ونفوذهم واتخاذهم أرضية ووسيلة لتوحيد الأكراد، نظرا لوجود مناصرين كثر لهم في جميع مناطق كُردستان، في العراق وإيران وتركيا وسوريا. وبما أن الإسلام هو الجامع الأوسع والأشمل للكُرد، فكان واضحا أن الإسلاميين يقدرون على لعب هذا الدور عبر تحولهم إلى وسطاء وقوة خير بين مجاميع الأكراد المشتتة، لتقريبهم بعضهم إلى بعض، لكن الإسلاميين ذهبوا مذهب الجماعات الكُردية القبلية التي يستهويها الانتماء إلى عصب الجماعة الصغيرة والزهو بها، في ظل غياب عقل كبير وهدف كبير يرفد بطاقات الأكراد نحو ما يبدو لدى الأمم والشعوب، فيما يثبت بصمات هويتها وتأريخها وحضارتها في العالم. فكان الإسلاميون أشد انقساما وتشرذما وخصومة من غيرهم فيما بينهم. وكما غلب الارتجال والعفو أداء البارزانيين، لم تكن حال الجماعات الكُردية الأخرى، وعلى الخصوص الإسلاميون، بأفضل مما لدى البارزانيين. وكانت النتيجة كما نرى اليوم، انحدر الوجود الكُردي برمته واختزل في تأمين الرواتب التي تساعد وجودهم البدني على البقاء في مضمار الحياة. لكن فشل الإسلاميين كان ويظل أكثر وقعا من فشل الآخرين. فالإسلام بطبيعته جامع يلم شمل الشتات أينما كان. في الواقع الكُردي، تحول الإسلايون إلى أدوات لشرذمة أكثر وانقسام بخصومة أثقل وأكثر حدة، حتى بين الإسلاميين أنفسهم.
في هذا الواقع الملئ بالشرذمة والخصومة والحدة، تقوقعت سياسات البارزانيين في الانكفاء نحو البقاء في أعلى السدة السياسية والمالية المجردة، أمام الجماعات الكُردية الأخرى وقهرها وإخضاعها لأنفسهم، دون وجود تخطيط وإستراتيجية لوجود الأمة الكُردية، في محيط يتفوق عليهم بإمكانات هي متاحة للأكراد أيضاً، لكنهم لم يعملوا عليها نظرا لاستغراقهم في تفاهات الأمور اليومية والقائمة بينهم. وتراوحت أهداف الجماعات الكُردية الأخرى في مخاصمة البارزانيين مرة، والدخول معهم في شراكة القوة والمال مرة أخرى، في شد وجذب مشرذِم مفتِت، لا علاقة له بتطلعات الأكراد كشعب وكأمة نحو مستقبل أفضل. وفي هذا الدرب، التفت حول القيادة البارزانية حاشية من شرذمة جاهلة وخفيفة، لا تعرف سوى أن تبدي وولاءها الظاهري لها، بينما شعورها وخيالها ظلا دوماً أسيراً ومشدوداً نحو الحاجات الجسدية والغرائز التي تشترك فيها مع العجماوات. هذه الحاشية هي التي تسيطر على مناحي الإعلام و»الثقافة» والإدارة للبارزانيين، ومعظمهم ليس منتميا إلى القبائل البارزانية بل إلى المناطق السورانية وإلى أجزاء كُردستان في إيران وسوريا.
أكتب هذا المقال بألم عميق وجرح قديم وعقيم أعيشه منذ عقود. ولكي يعرف القارئ كيف يبدو الألم لمن ينتمي إلى الهوية الكُردية ويعي أبعادها، فمن المفيد ملاحظة ثلاثة حوادث حصلت في هذا العام 2020، أي بعد مرور نحو ثلاثين عاماً من حكم كُردي عتيد لإقليم كُردستان في العراق. هذه الحوادث قد تكون عابرة، ولكنها تمثل نموذجا بين المئات من الحوادث والمسائل في حياة الكُرد اليومية، والتي تشرح فشل الأكراد عموماً في أن يتصرفوا كأمة.
في الحادثة الأولى، وقبل أيام، عرضت قناة رووداو التابعة للبارزانيين تقريرا للوحة حجرية ضخمة تعود إلى العصر الميدي، تشرح واقعة حربية معينة قبل نحو 26 قرناً لملك ميدي. لكن المؤسف، أن هذه اللوحة الضخمة التي تقع في أعلى جبل قريب من السليمانية، تلطخها الأوساخ والكتابات والصور التافهة لمراهقين، فضلا عن أوساخ يتركونها كنفايات وفضلات! ولو كانت سلطة إقليم كُردستان تهم بقضايا قومية ووطنية وتراثية كُردية، ولو كان القائمون على شؤونها من أصحاب الكفاءة والثقافة، لقاموا بحملة منظمة لحماية وترميم هذه الأماكن وبناء مشاريع سياحية حولها، لجذب أنظار الناس إليها، ومن ثم دعم الأبحاث والدراسات الكُردية حولها، على غرار ما يفعله مثلا الإيرانيون والأتراك!
في الحادثة الثانية، ظهر أحد أعضاء البرلمان الكُردي في شبكات التواصل وهو تابع للبارزانيين. يمارس هذا النائب هوايات فنية بعيدة عن السياسة، وصرح أنه لا يعرف أي شيء عن السياسة. بموازاة هذا، قامت الكتلة التابعة للبارزانيين بتجريد الحصانة من عضو برلماني إسلامي، مشهور بوقوفه وفضحه للفساد الحزبي والسلطوي في كُردستان. ولكن كل هذا لم يبلغ تقديم البارزانيين شخصا عديم الكفاءة، لتسنم حقيبة وزارية في حكومة العراق، على أنه كان قد رشح لمنصب أكبر من الوزارة في السابق. كأنّ هناك تعمداً واضحاً لدى السلطة في أربيل إلى استصغار المؤسسات التي تعتبر أعمدة وتجليات وجود الشعب والأمة، ليكون البديل دائما وأبدا الدائرة القبلية المغلقة التي حافظوا عليها لقرون، لتكون هي وحدها جهة التشريع والتنفيذ والقضاء للأكراد. وهذا يدل على أن التفكير الذي يقف خلف هذا الأداء، هو نفسه الذي ظل قائما فيما مضى من التأريخ، منذ أن كانت لهذه الجماعة أو تلك وجود وشأن اجتماعي وسياسي في مناطق كُردستان.
الحادثة الأخيرة، هي ما لاحظته في مقابلة محطة أم بي سي مع الرئيس مسعود بارزاني، الزعيم الذي يتمتع بمؤهلات زعامة الأكراد جميعاً لكنهم خذلوه، ومن بين من خذلوه حاشيته وحزبه والسلطة التي حكمت باسم عائلته. لقد وقف بارزاني بكل شجاعة وعنفوان أمام الإرادة العالمية والإقليمية المضادة له، في استثناء يندر له مثيل عالمياً. لكن للأسف، لم تستثمر زعامة بارزاني وثقله، من أجل مشروع كُردي على مستوى الأمة. في هذه المقابلة ظهر جليا، أن الأكراد يمارسون حياتهم اليومية السياسية بعفوية وارتجال، بعيدا عن التخطيط والتنظيم. وبدا واضحا أن بارزاني كان يرتجل أجوبته، مما أوقعه في أخطاء لم تكن لائقة أن تبدر من زعيم بوزنه وثقله التأريخي. ولكن حتى هذه الأجوبة دللت على أخطاء أخرى جوهرية، تشير بإلحاح إلى وجود خلل عقيم في تصرف الأكراد، بعيدا عن موجبات الأمة وكينوناتها وضروراتها. فقد صرح الرئيس بارزاني في معرض الحديث عن دعم الدول المجاورة والعالمية لهم ضد داعش، إنه يشكر إيران لأنها دعمت البيشمركة بالصواريخ، ويشكر أمريكا ودول الغرب لأنها وفرت الغطاء والإسناد الجوي لهم، مع تزويدهم بالأسلحة. هذا التصريح كان خاطئاً جداً لسببين. الأول، ما فتئ بعض أعضاء جماعة جلال طالباني يصرحون علنا، أنه لم يكن للبيشمركة أي دور في القتال مع داعش، بل تولت دول الغرب الأمر عبر القصف الجوي، فجاء تصريح الرئيس بارزاني تأكيدا لهذا التصريح الذي يقدح في سمعة البيشمركة. ثانيا، يتساءل الناس، إذا كانت إيران والدول الأخرى هي التي زودت البيشمركة بالسلاح، وأنهم بدون هذا الدعم كانوا سيتعرضون إلى الانهيار، فالسؤال إذا هو ماذا يفعل الأكراد منذ ثلاثين عاما وبيدهم المليارات من الدولارات سنوياً. أين تذهب كل هذه المليارات. ثم إذا كان الوجود الكُردي يعتمد على دعم الدول المجاورة (حتى في توفير رواتب الموظفين كما صرح أردوغان)، فبأي إستراتيجية محكمة أقحم البارزاني إقليم كُردستان في مغامرة الاستفتاء. مع أن الاستفتاء، كان ويظل خطوة صحيحة، مع الإقرار بالفشل في تهيئة الواقع الصحيح له، لكن تصريح بارزاني لهذه القناة، بشأن دعم هذه الدول للبيشمركة ضد خطر داعش، يخلق تناقضا مميتا بين تلك الممارسة وهذا التوجه. وفوق هذا يبدو واضحا، أن بارزاني يفتقر إلى حاشية مدربة ومتعلمة لتساعده على تدبير شؤونه. فالمقابلات مع هذه القنوات، تسبقها تحضيرات وإطلاع على الأسئلة، وتحضيأجوبتها بدقة وعناية من قبل طاقم خبير ومتمرس وصاحب كفاءة. ولكن غياب هذه الأمور مرة أخرى، في غياهب العفوية والارتجال، يضعنا أمام السؤال الذي يأبى الاختفاء، لماذا لا يتصرف الأكراد كأمة!
** **
- علي سيريني