زكية إبراهيم الحجي
ثمة في أعمالها دوماً امرأة من نوع مختلف.. امرأة مرت بمراحل تحول متعددة.. في البداية لم تعِ ما كان يحدث حولها من تعصب واضطهاد لوني وتمييز عنصري في محيط بيئتها جنوب أفريقيا. ذلك الوسط المعبأ بالعنف والتمييز العنصري والتهميش الاجتماعي لأصحاب البشرة السوداء.. كيف ذلك وهي المرأة البيضاء التي وُلِدت وترعرعت في أرض مناجم الذهب «جوهانسبرج»، على الرغم من أن والدها من لاتفيا ووالدتها من بريطانيا.. كيف ذلك وهي التي عاشت طفولتها في رغد وفرته لها عائلتها البرجوازية الثرية بعد أن انتقلت للعيش في جنوب قارة تطفح بالاختلاف العرقي والعقائدي والعنف العنصري.. دولة تنحى نحو استلاب حياة الفئات المهمشة من ذوي البشرة السوداء.. الحياة المخملية التي تمتعت بها داخل جدران قصرها وملعقة الذهب التي غمستها في أطايب الطعام بدت صورية وزائفة أمام عينيها التي تابعت بهما بانوراما التناقضات فيما بين حياة ثرية عاشتها وحياة البؤس والذل والانكسار يعيشها ذوو البشرة السوداء في وطنها.
«نادين غورديمر» سيدة الأدب الأفريقي التي كرَّست حياتها وأدبها لتعرية قوانين العزل العنصري.. بل ذهبت أبعد من ذلك بكثير.. ذهبت إلى الضفة المعتمة التي انتفت فيها كل مبادئ القيم الإنسانية.. اختلطت بذوي البشرة السوداء وأماطت اللثام عن العدالة المفقودة في نظامٍ «كولونيالي» متوحش وسعت لتفكيك التاريخ المظلم لعلاقة ذوي البشرة البيضاء بذوي البشرة السوداء في دولتها جنوب أفريقيا..
أيقونة النضال والفكر والضمير الإنساني قفزت إلى ذهني وأنا أتابع الأحداث الأخيرة التي أشعلت الشارع الأمريكي على خلفية مقتل «جورج فلويد» عادت بي الذاكرة إلى «عالم الغرباء، وابنة برجر، وشعب يوليو وغيرها من روايات جسدت من خلالها عذابات شعبها ورسمت ويلاته ومعاناته التي طالته من نيّر الاستعمار ومن أشكال التمييز العنصري.. والظلم والاضطهاد الذي لحق بالأفارقة السود فعلى الرغم من أنها ليست زنجية بل من أصول أوروبية ومن طبقة برجوازية ثرية إلا أنها أبت أن تعيش في برج عاجي يعزلها عن قضايا مجتمعها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
لكم أدهشتني الجرأة الفائقة والإبداع الساحر الذي تميزت به في سرد معظم رواياتها ففي رائعتها «شعب يوليو» التي تُعد من أهم وأعظم رواياتها أطلقت العنان لقلمها الحاد الجريء.. وحدَّت النقد للواقع البائس المرير الذي يعيشه زنوج جنوب أفريقيا.. رواية مثيرة رسمت الكاتبة من خلالها العلاقة الشائكة بين ذوي البشرة البيضاء وذوي البشرة السوداء ومشاهد الصراع المتمثل في أن ذوي البشرة البيضاء هم الأجدر بالأرض وثرواتها في حين أن ذوي البشرة السوداء لا خيار لهم سوى التهميش وخدمة الرجل الأبيض وأن يعيشوا عيشة الغرباء في وطنهم.
نادين غورديمر.. قضت تسعين عاماً من النضال في وجه العنصرية.. سخرت قلمها للدفاع عن حقوق الزنوج المهمشين وكانت مرآة عاكسة لكل ما يقع عليهم من ظلم واستعباد فاستحقت عن جدارة جائزة نوبل في الأدب عام 1991م وبعد مشوار طويل من النضال ضد العنصرية وفي عام 2014 رحلت أيقونة الضمير الإنساني مخلفة إرثاً روائياً عظيماً.