د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** يروي مؤرخو الأدب أن وراقًا وشاعرًا عباسيًا -توفي في القرن الثالث الهجري- اسمُه (بكرُ بن خارجة)، كان يعشق صوت «هدهدٍ يأوي إلى إحدى الخرائب» فيرتادها من أجله كي يستمتع بسماعه، ويضيف الدكتور عمر فروخ «تاريخ الأدب العربي- الجزء الثاني ص 323» أن بكرًا فقد عقله في نهاية عمره فصار «يمدح ويهجو بدرهمٍ ودرهمين» حتى هجره الناس، وروى له:
كيف احتراسيْ من عدوّي إذا
كان عدوي بين أضلاعي
** لا تحتاج الحكاية إلى حكاية فقد أوجزت مساراتٍ نعبرُها وإن لم نرها، وطرحت استفهاماتٍ لا إجابة عنها؛ فكيف يُطربُ هدهدٌ في خرابة، ومن يرضى أن يستلبه مالٌ ليُثنيَ وينثنيَ؛ وهل لفُتاتٍ قلَ أو كثر أن يُحركَ مواقفَ من الضدّ إلى الضد، وماذا عمن عرف داءَه فلم يجد دواءه في داخله، ولماذا أفصح شعرُه فلم يُبدّل شعورَه، وهل يمكن الهروب من الأسئلة بتفسيرٍ واقعي لتُختصر في حالة خاصة لإنسانٍ هائمٍ أدركته لوثة الإبداع وبوهيمية الاستمتاع؟
** لهذا التفسير وجاهتُه حين نخصص الحكاية ولا نعمم مدلولَها، وهو أقوى من أن يتوجه نحو شخصٍ هائمٍ كابنِ خارجة -إذا صدقت روايات المؤرخين حوله- بل ليستدعِيَ مشهد الهدهد والخرابة بوسمهما رمزين للبؤس واليأس الذي يبلغه امرُؤٌ يرى الجمال في القبح، والراحة في العناء، والتميز في التحيز، وهو مشهدٌ يتكررُ عبر الأزمنة؛ لا يكاد ينجو منه عصرٌ ولا مصرٌ حيث تتجلّى فوضى الأوعية ومعضلةُ الوعي.
** الهدهد والخرابة رمزان لم يتهيأْ لأجيالٍ معايشتُهما واقعًا مباشرًا باسمٍ ووسمٍ يشيران إليهما بحقيقتيهما، فناب عنهما هداهدُ وخرائب لم يتوقف بهما شاعرٌ تائهٌ بل أرقام متتابعة من ذوي الاهتمامات القرائية زمن الورق وزمن الرقم؛ فما ظلَّ هدهدًا واحدًا ولا خرابةً نائيةً، وفي التآليف والمؤلفين، والمقالات والقائلين، والتغريدات والمغردين ما يشي بأصواتٍ مختلطةٍ لايَميز فيها الغراب عن البلبل ولا يفترق القصرُ عن القفر.
** القضية إن شئتم ستنتهي بهاجسٍ مزمن حول إضافات الثقافة العربية والمثقفين العرب للثقافة العالمية؛ فبمقدار ما اخترق التراثُ أسوار الآخر لم تستطع المعاصرةُ فعل ذلك، ربما لأن الأصوات المختلطة تصنع ضجيجًا ولا تقدّم جديدًا، والفارق بين المرحلتين هو فارقُ الإثارة عن التأثير، وحين نصنعُ من موقفٍ أحاديٍ توقفاتٍ جمعية يفهمها كلٌ وفق خلفيته البيئية وثقافته السلوكية بعدما تقاربت لغة العامة والخاصة معنىً ومبنىً، وربما شُبِّه على فئامٍ فأشادوا حيث العيّ وعابوا حيثُ الإفصاح، وسلم التراث المُترجم من التسطيح والشخصنة والهذر أو لنقلْ جرى تجاهلُ ما كان فيه، واليوم يعمُّ التجاهلُ إلا لفهم إيقاع الشعوب ومواقعها.
** كتب ميخائيل نعيمة 1889- 1988م في «الغربال»- 1923م: لا كتب عندنا بل تجارة بالكتب، والظن أن التجارة امتدت فتخطت الوِراقة والوراقين والأصوات والأصداء واستعادت «الهدهد والخرابة».
** إن لم تضئْ أطفأتَ وطفَّفت.