خالد بن عبدالكريم الجاسر
قال الفيلسوف والدبلوماسي الصيني «هو شيه» ذات مرّة: «إنّ الهند اجتاحت الصين ثقافياً لمدة عشرين قرناً بدون إرسال أي جندي عبر حدودها»، فعندما تلتقي آلاف السنين من التعايش السلمي بالمصالح الجيوسياسية الحديثة، نجد الصدام لا محالة في غياب الوعي الثقافي الحضاري، لينجم شذوذ بين المصالح الاستراتيجية والاقتصادية، والسر يكمن في النصف الأخير من القرن الماضي بينهما.. خلافاً تجاوزته حضارات هي مضرب مثل للآن، فما هناك خلاف حول هضبة دوكلام إلا أنه اختلاف فقط، ووجهات نظر علاها تطبيع العلاقات كما في قمّة «البريكس» حتى تحولت الأنظار إلى ما قد يصبح إحدى أهمّ العلاقات في النظام العالمي القديم وتحوله لمخاطر «جيو- سياسية» في منطقة ملتهبة، أتاحت الفرصة أمام أميركا لصياغة ذلك النوع من العلاقات القوية، والتي كانت واشنطن تتوق إليه منذ أكثر من عشرين عاماً.. فهل فهمت الدولتان ما يحاك بهما؟!
لعل تعزيز الوعي بهذا التاريخ العريق بين شعبَيهما هو خطوة للتخفيف من حدّة التوترات، التي شاطر البلدان قبلها أعرافاً ثقافية عميقة تحددت معالمها بطرق فريدة، بعيدة عن أيّ تفوّق قومي، أساسه جهد سياسي واعٍ، وتضامن ثنائي، رأيناه في معاهدة «بانشيل».
إذاً عدم تعزيز الوعي جعل الفردية الصينية تحرك آلاف الجنود إلى وادي «غالوان» في إقليم «لدخ»، بعدما شرعت الحكومة الهندية في تشييد طريق يؤدي إلى قاعدة جوية متقدمة، لتتفجر أزمة التصعيد على طول الحدود المشتركة بينهما في جبال الهيمالايا، نتج عنها خسارة الشعبين أرواحاً بريئة في اشتباكات هي الأولى من نوعها منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، لكن التصعيد الصيني كان هو الخطوة الحاسمة، التي عكست أهدافها الاستراتيجية المتزايدة، ليس في جبال الهيمالايا فحسب -أو قمة العالم كما يسمونها- وإنما على الصعيد العالمي بأسره.. لأهميتها بالنسبة لأمريكا، وسميت «الجرح القديم المتقيح»، إذ تعتقد الهند بأن الصين تحتل أكثر من 40.000 كلم2 من أراضيها، بعد هزيمتها في حرب عام 1962، وبتوغل الصين تجددت الجراح أكثر من شهرين في توترات عام 2017 بهضبة «دوكلام». وفازت الصين فيها أيضاً، أعقبها محادثات طغى عليها العدائية الصينية التي تحركها مصالح جيوسياسية ظهرت في تحركها الاستراتيجي والتكتيكي، بدايةً من عام 2020، وكأنها تستغل جائحة كورونا، إذ لاحظنا ارتفاعاً في النشاط العسكري البحري في بحر الصين الجنوبي، ضد الوجود العسكري البحري الأميركي في المنطقة نفسها، وتصعيد الضغوط على تايوان، لدعم مبادرة «حزام واحد وطريق واحد» (One Belt One Road) عبر بلدان جنوب آسيا، لا سيما مع باكستان. لأن الهند هي الحائل أمام مسارات التجارة التي تحاول الصين الاستعانة بها في السيطرة على المجريات الاستراتيجية في القرن الحادي والعشرين. بل وتحاول تحويل جزيرة صغيرة من جزر المالديف إلى قاعدة جوية في المنطقة، كما فعلت مع الجزر الاصطناعية التي أقامتها في بحر الصين الجنوبي.
إذ لم تستشعر بكين ارتياحاً في حالة التقارب المستمرة التي جمعت بين واشنطن ونيودلهي على مدار السنوات الخمس الماضية، والتي تحتاج أميركا فيها لبناء كتلة قوية من البلدان المتضررة من أفاعيل بكين معها، ولا تشتمل تلك الكتلة الممانعة على الهند فحسب، وإنما اليابان، وكوريا الجنوبية، وأستراليا، وسنغافورة، وشركاء دوليون آخرون.
وعليها رأت بكين أن جارتها الهندية مصدرَ إزعاج أكثر مما رأت فيها تهديداً، تعتبره اليوم «مشروطاً» نوعاً ما، حيث ساهمت هذه المخاوف، فضلاً عن دعم الصين لباكستان، في معارضة بكين لنيودلهي بشأن المسائل الاستراتيجية والرمزية الرئيسية، على غرار طموحات الهند بنيل العضوية الدائمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وانضمامها إلى مجموعة المجهزّين النوويين (NSG). ورغم ذلك مدح الرئيس شي جين بينغ الهند في قمّة البريكس، بوضوح، وسمح بورود اسم المجموعات الإرهابية الموجودة في باكستان في بيان القمّة، إذاً لماذا بنت بكين طريقاً في دوكلام وأثارت حفيظة الهند؟.. التخوف من التدخلات الأمريكية ووجودها بالمنطقة، فهل إذا تحالف الشعبان وخرجت أميركا تعيد الصين حق الهند إذا كان حقها، ويعيشان في سلام بنته آلاف السنين؟!
وينبغي حلها في سياق المقاربة الأوسع نطاقاً، وفوت الفرصة على المتلاعبين بهما. وقد يساعد تركيز هذا الوعي صانعي السياسات في البلدين على الحدّ من الحوافز السياسية المحلّية التي تحثّ على العداء عندما يسعون للقيام بذلك، بدلاً من التركيز حصراً على مصادر العداء الحالية واعتماد عدد من وسائل القوّة الناعمة، وزيادة الثقة في علاقةٍ هي واحدة من أبرز علاقات القرن الحادي والعشرين.