د. عيد بن مسعود الجهني
النفط الذي أبهر عقول العسكريين في الحرب الكونية الأولى؛ فكان سلاحًا ماضيًا في حسم تلك الحرب، وإدارة الصراع لصالح الحلفاء، هو (النفط) الذي حسم الحرب المدمرة الثانية التي اعتمدت على النفط الأمريكي في نحو 90 في المئة من احتياجاتها عندما كانت أمريكا إمبراطورية نفطية وحيدة، فرضت إرادتها البترولية على الجميع دون منازع، واستحق أن يقول الرئيس الأمريكي الأسبق روزفلت عن دوره الخطير في حسم الحروب: «لقد سبح الحلفاء نحو النصر في الحربين العالميتين على بحيرة من النفط».
إنه النفط ليس مجرد مصدر للقوة في العالم، بل وسيلة لتلك القوة أيضًا، وهو (النفط) محرك أساسي للنزاعات والصراعات والحروب والتدخلات في شؤون الدول الداخلية وتقاسم النفوذ، وهذا ما نراه متجسدًا على أرض ليبيا.. أرض المجاهد الكبير عمر المختار -رحمه الله-.
ليبيا منذ ثورتها 2011 وهي تعيش على حافة الهاوية، ومع هذا الصراع الداخلي على السلطة لنحو عقد من الزمن جاء الغازون من بعيد للصراع على اقتسام نفط ذلك البلد.
والعرب اليوم في ظل التحولات السياسية الجذرية التي تخيم على بعض الدول العربية في هذه المرحلة التاريخية الحرجة قد ينطبق عليهم حال إيطاليا عندما تمزقت سياسيًّا وتحطمت اجتماعيًّا، وخرج فيلسوفهم (ماكيافلي) عام 1498؛ ليسهم بدفع عجلة بلاده نحو (القوة)، فهل يطلب العرب من (ماكيافليين) عرب المساهمة في وضع خطط واستراتيجيات مدروسة علميًّا واستراتيجيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا وتنمويًّا واجتماعيًّا.. إلخ، يخرج من رحمها قرارات رشيدة على طريق خطوة الألف ميل للخروج من النفق المظلم؟!!
في ظل هذه التحولات الخطيرة في ديارنا العربية وغياب منظومة الأمن القومي العربي جاءت تركيا من بعيد لترسم حدودًا سياسية مع ليبيا ممثلة بحكومة السراج، ثم تتدخل علنًا داعمة بالسلاح والعتاد والرجال ضمن اتفاقيات محددة.
هذه الاتفاقيات في ظل القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة تعتبر ليست ذات صفة قانونية فالاتفاقيات المعترف بها دوليًّا هي تلك التي انعقدت طبقًا لشروطها المتعارف عليها دوليًّا.
وهذا يعني بمفهوم القانون أن الاتفاقيات المعترف بها هي تلك التي عُقدت قبل الثورة؛ لأن إرادة الليبيين غير مجتمعة في مثل هذه الاتفاقيات في ظل انقسام غير مسبوق في الداخل الليبي؛ فالبرلمان في بنغازي وسلطة معترف بها دوليًّا في طرابلس. وينطبق هذا التعريف القانوني على الوضع الروسي في ليبيا؛ فالدولتان التركية والروسية ما هما إلا دولتان تدخلتا في الشؤون الداخلية لدولة ليبيا.
المهم في الأمر أن هرولة الدولتين (روسيا الغنية بالنفط وتركيا الفقيرة منه) إلى ليبيا دافعهما الأساسي النفط، وهما الدولتان صاحبتا الصراع في بلاد الشام، ومعهما طهران راعية الإرهاب. وما يدور على أرض ليبيا اليوم لا يعدو كونه سوى صورة طبق الأصل لما يدور على أرض سوريا، من اقتسام للثروات، وتوزيع للنفوذ. وقد تنضم إليهما إيران لاحقًا، وأحزاب مثل حزب الله في لبنان والعراق وغيرهما؛ لتصبح ليبيا دائرة صراع كبرى في ظل تخاذل دولي رهيب، يشهد دولاً عربية تُقسّم، ويُقتل أهلها، وتُنهب ثرواتها دون أن يصدر قرار واحد من مجلس الأمن ضد العدوان والقتل والتشريد لا تجهضه روسيا وأمريكا.
هذا النفط الليبي الذي يبلغ احتياطيه أكثر من 48 مليار برميل نفط عالي الجودة، يشكل أكثر من 90 في المئة من إيرادات ميزانية ذلك البلد الذي انخفض إنتاجه إلى أقل من 300 ألف ب/ ي مع شدة الصراع على السلطة من فريقين يتقاتلان، وأدت الصراعات بينهما إلى عدم الاستقرار الذي خرج من رحمه التدخل التركي والروسي. والباب مشرع لغيرهما؛ لتصبح المعادلة وكأننا في بلاد الشام. سيناريو خطير، يهدد الأمن القومي العربي في مقتل.
ولأن التدخل يُعتبر في علم الاستراتيجيات السياسية والعسكرية والاقتصادية في بداياته الأولية فإنه قد يتطور ليصبح أكثر عمقًا وأثرًا على بلد عربي في القارة الإفريقية؛ فأصحاب التدخل قرروا مد تدخلاتهم بكل وجوهها من بلاد الشام إلى ليبيا في القارة السمراء، وهذا يعني نقل مقاتلين مرتزقة وعناصر من داعش وغيرها على أرض بلاد الشام والعراق، بل أعضاء من حزب الله في العراق ولبنان والحوثيين في اليمن، وأصبح أمرًا واردًا في كل الظروف. وهنا تتوسع دائرة الصراع على الأرض الليبية التي تتميز بالعمق القبلي الذي عُرف على مَرّ التاريخ برفضه التدخلات الخارجية، ويعتبر البطل عمر المختار الذي قدّم حياته مدافعًا عن وطنه مثلاً لذلك.
وفي نظرة على الأحداث المتسارعة الكبرى على أرضنا العربية يمكننا القول إن أمننا القومي العربي في خطر محدق بعد أن خرج العراق (بوابته الشرقية) من حضن هذا النظام واحتلاله إيرانيًّا، وتبعته سوريا بصنع بشار الطاغية، والفرس والأتراك والروس، ومهادنة ماما أمريكا لهم لمصلحة إسرائيل.
واليمن الذي كان سعيدًا يسير إلى الهاوية.
والسودان انشطر إلى دولتين.
وهناك (لعبة) دولية لفصل دارفور.
والصومال قُطعت أوصاله.
ونحن في العالم العربي متفرجون على ألعاب سيرك بهلوانية، يصفق لها البعض فرحين، ويذرف الدموع الكثيرون.
يمكننا القول إن الشرق الأوسط يعيش حالة اشتعال بسبب الصراع الأمريكي ـ الروسي، الإيراني ـ التركي على أرض بلاد العرب، يتدخلون سرًّا وعلنًا في الشؤون الداخلية لدول المنطقة عامة، والعرب وسط هذه التحولات التاريخية الجسام التي تشهدها منطقتهم يجهلون تمامًا أو يتجاهلون أن هذا العصر هو عصر (القوة)، والعالم لا يصغي إلا للقوي، (والقوة) هي التي كسرت شوكة العراق أرض الرافدين.
ولا يمكن الحديث عن الأمن القومي العربي دون الأخذ بالحسبان الأمن القومي المصري؛ فمصر تبلغ حدودها الدولية (5596) كم، منها (1115)كم حدودها مع ليبيا. وهنا تبرز الأهمية الكبرى للحدود السياسية؛ فلها أهمية قصوى في تحديد كيان الدولة كوحدة سياسية قائمة بذاتها، إضافة إلى أهميتها في تحديد علاقاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والحضارية.. إلخ مع الدول المتجاورة. فسلامة الدولة تكمن في سلامة حدودها مع جيرانها، ومدى فاعلية تلك الحدود.
وبهذا تتضح أهمية الأمن القومي الليبي بالنسبة لمصر، فأمن مصر من أمن واستقرار ليبيا، والدول التي جاءت للتدخل العسكري في الشأن الليبي، وتمزيق دولة ليبيا على غرار ما حدث في العراق وسوريا والصومال واليمن وحتى في لبنان، ليست صاحبة حدود جغرافية مع بلاد الشيخ عمر المختار. فغزو هذه الدولة يعد في حكم القانون الدولي كالغزو الإيطالي للبلد نفسه.
وإعلان القاهرة الشهير وضع الخطوط الرئيسة لوقف نزيف الصراع الليبي أكد ضرورة وقف إطلاق النار واحترام الجهود المبذولة كافة لحل الأزمة، وتفكيك الميليشيات والمرتزقة، وتسليم أسلحتها إلى الجيش الوطني الليبي، وخروجها من البلاد، واستكمال أعمال 5+5 برعاية الأمم المتحدة. وهذا هو الطريق لدستور ليبي يضمن تمثيل عادل لجميع أقاليم البلاد الثلاثة، وإجراء انتخابات عادلة ونزيهة.. إلخ. إنه إعلان يضمن لليبيين أمنًا واستقرارًا وعدالة في نظام حكم ديمقراطي، وتوزيع عادل للثروة بين المواطنين الليبيين، ويبعد البلاد والعباد عن التدخلات الأجنبية في الأراضي الليبية إذا ما تحققت أهداف إعلان القاهرة.
ولأن الحق والخير بحاجة لقوة تحفظهما وتحميهما وتدافع عنهما، والحق أعداؤه كثيرون، وسيعملون جهدهم لمحاربة الخير؛ لذا لا بد للعرب من التسلح بالقوة للدفاع عن الحق في ليبيا. فإن كنت على حق فأنت بحاجة إلى (خيزوم) قوي مثل خيزوم السفينة، تشق به عباب البحر المتلاطم، والأمواج العاتية؛ لتستطيع التقدم والبقاء.
وهذا أصبح مطلبًا عربيًّا رئيسيًّا اليوم، وفي مقدمته عقد قمة عربية (افتراضية) عاجلة لاتخاذ قرار عربي سريع لدعم إعلان القاهرة الذي أيدته معظم دول المجتمع الدولي وأمن واستقرار ليبيا قياسًا على القرار التاريخي السعودي لتحرير دولة الكويت الشقيقة.
ليبيا تنتظر قرارًا عربيًّا تاريخيًّا لدعم أمنها واستقرارها للوقوف في وجه التدخلات الخارجية في شؤونها الداخلية، وحماية سيادتها وأمنها الوطني.
ونحن العرب نعيش في عالم مجرد من كل القيم الإنسانية.
فلا حماية لضعيف ولا رعاية لمحتاج.
عالم مادي شرس، لا يعرف رحمة ولا عدلاً، بل يعرف القوة.
والله ولي التوفيق.