ماءٌ؛ ولا كَصَدَّاء.. مرعى؛ ولا كالسَّعدان!
هي أستاذة، ترى في وجهها من أول وهلة، جلال العلم وهيبة العلماء، (ولا أعني مطلق الجلال، ولكنه جلالٌ خاص وهيبةٌ خاصة لا تراها في أي أحد)، ثم هي مع هذا (قريبة)، لا تكاد تشعر بينك وبينها بأي حدود، لكنها تغدو (بعيدة بعيدة) وأنت تتأمل هذه القامة وبُعْدَ ما بينك وبينها.
قامة؛ تُشْعِر من أمامها بالصِّغَر -رغم تواضعها- تعيده إلى وضع الطالب الذي يجلس للعلم لأول مرة، وكأنما ينهل لأول مرة! ويكاد وهو يتلقّف كلماتها الأولى، يطالبها بالمزيد.. ويكاد -لولا الأدب- يأمرها ألا تتوقف..
هذه حال من يراها ويجلس أمامها لأول مرة.
أستاذتي هذه - وأنا أحاول الآن أن أرصد شعوري - وأنا أستمع إليها للمرة الأولى، وأكاد أنتهب منها الكلمات حين جلست أمامها تلك الجلسة، وأنا أستمع لكلمات ليست ككل الكلمات، أحاول الآن أن أطلق العنان لكلماتي لكي تصفها كما يجب، فلا أتذكر سوى تلك الصدمة الجميلة, نعم (الصدمة)، التي ما زلت مأخوذة بها، وأنا أستمع لكلمات كنت أظنني لن أسمعها، وأن عهدها ولى، وأنها لم تعد مطلوبة، وأنني - وحدي، وأنا أتشبث بها - أغرد خارج السرب، في زمن غيرِ الزمن، وبنفس مُنْكرَة في النفوس! لكني وجدتها تغرد معي، وتحلق في سمائي، وتأخذ بيدي من غير أن تشعر. بل وتؤثر في قراري، وتحسم اختياري! كل هذا الأثر وهذا التأثير، أحدثته ببضع كلمات (تغني عن محاضرات)، وهي تتكلم عفوا، من غير أن تشعر..
وبعد، ماذا أحدثكم بعد هذا الانطباع الأولي - الذي ما زلتُ مأخوذةً به - ماذا أحدثكم عن مها؟
ماذا أحدثكم عن التمكن والرسوخ، وماذا أحدثكم عن كِبَر (العقل)، وكِبَر (النفس)، هذه الثلاثة التي جعلتها في الأساتيذ عجيبة، وفي النساء أعجب! الحقيقة أن مثل هذا الحديث لا أستطيعه بل أعده نوعًا من (التطاول)! فمهما قلت وقلت عن هذه الجوانب فإن كلماتي - وقد بلغ بي وبها الصغر أمامها - لن تبلغ بي شيئًا مما أريد! بل ستؤدي -حتمًا- إلى أقل مما ينبغي أن يقال!
ماذا أحدثكم عن مها في حدود ما أطيق؟!
أحدثكم عن احتفائها بـ(العقل)؟
نعم!!
أستاذتي هذه: تقدر العقل، وتقدر الفكر، تحتفي بهما، ويغمرها السرور! وهذا أول ما لفتني، ورأس ما أعظمها عندي! هي لا تكبِّلك.. ولا تنقدُك.. ولا تستهجنُك؛ لحريةِ عقلِك وطلاقةِ فكرك! بل تجثو عليك تقبِّلُ رأسَك!
كنت أظن عهد (الأساتيذ) الذين يحتفون بالعقل، ويُسَرُّون بنجابة تلامذتهم ويسعدون بهم ويعبرون عن سعادتهم هذه (بكل صدق وبراءة وعفوية، وبأشكال متعددة من التعبير، لا يتقنها سوى الأساتذة الحقيقيين؛ وبأساليب يتوارى منها الطالب خجلاً، وينفجر بعدها إبداعًا وتألقًا) ،كنت أظنه قد انقضى، في حمى التنافسات، وصراع الماديات، وتقاتل الدرجات، ولا سيما في مراحل التعليم العليا (العليا بالنمط السميك)، وإذ بها تعيده! تعيده في هذه المرحلة بكل قوة، غير مبالية!
وتعيدُك معه تلميذًا صغيرًا صغيرا..
لا يبدو في ذهنِها شيء من تلك الأمور السطحية، وهذه الصراعات!
يهمها شيء واحد: هو عقلُك! تقدمُك.. إنجازُك..
وأما أين تصل؟ هذا السؤال المُقْلِق أحيانًا.. فأقصى ما تصل إليه.. هو الذي يسعدها.
أقصى ما تصل إليه.. هو الذي يسعدها!!
- (أنا لا أريد أن أحُدّ من انطلاقة أحد)..
عبارة دغدغت عقلي وفكري أيامًا وأنا أعيدها وأكررها..
(أنا لا أريد أن أحُدّ من انطلاقة أحد).. هذه عبارتها كما قالت بالضبط، فِكر ومنهج وطريقة: (مواقعُ الماءِ من ذي الغُلَّةِ الصادي).
هذه هي الأستاذ الذي نريد، والعبارة التي نريد.. عبارة اختصرت عليَّ كثيرًا مما يقال ومما لا يقال، عبارة من شأنها: أن تنهض بعقول.. وجامعات.. وأمَّة.
ليس غريبًا بعد هذا كله أن تؤثر في طالبة، كانت قد أعدَّت نفسها إعدادًا لا يتأثَّر!
ماذا أحدثكم بعدُ؟
أحدثكم عن طريقتها؟
أستاذتي هذه، ورغم كل هذه التمكن، لم تمارس دور المركز، ومع ذلك كان لها من المركزية والقيادة والنفوذ في النفوس شيء عجيب، لم تتعمده ولم تهدف إليه، لا أدري كيف تكوَّن وتخلَّق من غير أن تجعله أصلاً أو تسعى إليه. ولو حاوله إنسان وجعله هدفًا لن يصل إليه كما وصلت! لم تقل كلمة واحدة أو تتصرف تصرفًا واحدًا يمكن أن أعزو إليه هذه المركزية وهذا التأثير وهذا النفوذ الكبير في نفوس طالباتها!
أستاذتي هذه استطاعت بكل وعي بخصائص طالباتها وخصائص مرحلتهن خلق أجواء تعليمية فريدة، لا تتخذ لنفسها موقع المركز والقيادة، بل جعلت كل واحدة من طالباتها هي المركز وهي القائد! من غير أي تعارض أو تصادم - بين مراكز القيادة التي تعددت أمامها -، بل ود وصفاء وانسجام، لا يجيد خلقه سوى مها الميمان!
كانت الآراء في إدارتها الحكيمة - غير المباشرة لهذه المراكز - تختلف والمواقف تتباين، باختلاف طبيعة العقول وتباينها، واختلاف خصائص طالباتها ومنطلقاتهن، فكانت بمداخلاتها اللطيفة تقرب وتسدد وتوازن، وعينها على الجميع.. على الجميع دون استثناء، ليتحول هذا الاختلاف والتباين في لحظة إلى ضحكات وابتسامات، وتقبل لمختلف الآراء، بل واستعداد مسبق لسماعها، والاستمتاع بها! وكل هذا التأليف البديع من قِبَلِها - وإن كان في ظاهره عفويًا وبسيطًا - إلا أنه عميق في داخله، واع في مضمونه، محكوم من الداخل بسياج من الصبر والظُّرْف وهدوء الشخصية، الذي تميزت به.
لم تُبْقِ واحدة من طالباتها سلبية، أو اتكالية أو متذمرة، بل جعلت كل واحدة منهن مركزًا وقائدًا يمسك بالعملية التعليمية من جانب، ويديرها كما يحلو له، فجعلت الجميع يتفاعل، ويسعى إلى النقاش، ويحاول أن يطلق العنان لإبراز أجود ما لديه، في مرونة وطلاقة وجدية في الطرح والسؤال والجواب، لا تحدها حدود.
عندما عرفتها في هذه المرحلة المتأخرة، المقيدة رغمًا عنا وعنها بمدة محددة، أيقنت أنه قد فاتني الكثير، فهرعت إلى هذا القليل أحاول الإمساك به، العيش فيه، البقاء معه، تقييده في هذه السطور، اعتزازًا ووفاء وعرفانًا..
مها الميمان.. ليست فخرًا لي وحدي.. وليست فخرًا لجامعة الملك سعود حصرًا، ولكنها مفخرة للعلم، ومفخرة كبرى للوطن.. مفخرة وأي مفخرة، ومن حقِّها علينا، ومن حق الوطن علينا أن نشيد بمثلها.
فلمثلها أن يَظْهر.. ويُبْرَز.. ويُعْلَن، وللوطن علينا أن يُعْلَنَ له عن مفاخرِه.. لتكون لنا جميعًا أنموذجًا يحتذى، وخير ما يهدى لهذا الوطن المعطاء.
خاتمة:
وطني الحبيبَ، وأنتَ موئِلُ عِزَّةٍ
ومنارُ إشعاعٍ أضاءَ سَنَاهُ
في كلِّ لمحةِ بارقٍ أدعو له
في ظلِّ حامٍ عُطِّرَتْ ذِكراهُ
** **
- محاضرة بجامعة طيبة