د. جمال الراوي
منْ يدخل إلى مطاعِمنا، وينظر إلى الطاولات التي تركها الزبائن؛ يجد فوقها بقايا من الطعام لا تزال في حالة ممتازة، ليأتي العامل بعدها؛ فيقوم بتجميعها ووضعها على حالها في سلة النفايات؛ التي وضعها تحت الطاولة ... أمّا الولائم التي نُقيمها أو نحضرها، فعليك أنْ تُراقب، بحسرة، الكميات الهائلة من الأرز واللحوم التي يتم تجميعها ورميها، حينها سوف تُصيبك الدّهشة، وأنت ترى نعم الله تُهان، وهي وإنْ أصبحت ليست بذات أهمية لدى آكليها، إلّا أنّه لو فكّر أحدنا بالجهد الذي بذله المزارعون والناقلون والتجار وغيرهم في جلب هذه النعمة إلى مكان الوليمة، لوجد بأنّ جهوداً كبيرة وأموالاً كثيرة تُرمى في سلال النفايات.
نادرًا؛ ما تجد في جميع مطاعم أوروبا، أيّة فضلات للأطعمة؛ لأنّهم يطلبون على قدر بطونهم، ويتم حساب جميع ما يُطلب؛ يعدّونها الواحدة بالواحدة على الزبون، فلا يطلب أحدهم إلاّ ما يحتاجه؛ بينما مطاعمنا تزخر بنعم الله المهدورة والمُهانة؛ تعبث بها أيدينا وبطوننا المُتخمة، ولا نعرف أنّ النعم لا تدوم، وأنّ الله وضعها بين أيدينا؛ فأصابنا الكِبر ولم نعد نبالي بقيمتها.
لو فكّرنا في حال أولادنا وأهلنا، وهم يتقلّبون في النِعم، ونظرنا إلى فضلات الطعام في مطابخنا؛ لوجدناها، تتجاوز نصف ما نأكل، بينما الباقي يُرمى في سلّة النفايات، ولو تأمّلنا من في البيت لوجدناهم يتأفّفون؛ وينظرون بشذر وقرف إلى ما أبقوه من طعام، ولو طلبنا من أحدهم أنْ يأكل ما أبقاه من يوم أمس، لرفض ذلك مُتعللاً بأنّه لم يعد يصلح للأكل، فيطلب طعامًا جديداً ليعيد الكرّة؛ فيأكل نصفه ويرمي الباقي!
من جرَّب الأكل في مطاعم أوروبا والغرب عمومًا؛ يجد لديهم الحرص الشديد على عدم الإسراف في الطعام؛ يأخذون على قدر حاجتهم، كلٌّ بثمنه، حتى «الكاتشب» و»المايونيز» وغيرها من ملحقات الطعام، يقدمونها مدفوعة الثمن، ولا يكدّسونها أمام الزبون، بينما تجدنا في الشرق العتيد لا نعرف مقدار ما تسعه بطوننا، نلتهم الأطعمة في مطاعم «البوفيه المفتوح» بعيوننا، ثم نُعبأ منها في صحوننا، لنكتشف، لاحقًا، بأنّ بطوننا لا تسع كل ما كدّسناه، فنترك معظم الطعام فوق الطاولات، ليُرمى لاحقًا مع الفضلات.
يقول كعب بن مالك: (رأيت النبي، صلى الله عليه وسلم، يلعق أصابعه الثلاث من الطعام)، وجاء في حديث مُسلم عن جابر أنّ الرسول، أمر بلعق الأصابع والصحفة، وقال: «إنّكم لا تدرون في أيّ طعامكم البركة»، وجاء في رواية عن أنس: (وأمرنا، أيْ النبي، أنْ نسلت القصعة)، والسلتُ هو المسح وتتبّع ما بقي في القصعة من الطعام، وفي ذلك الإرشاد تنظيفٌ للقصعة، وعدم ضياع شيء من الطعام.
ورد في الحديث الشريف عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَرَأَى كِسْرَةً مُلْقَاةً، فَمَشَى إِلَيْهَا فَأَخَذَهَا، فَمَسَحَهَا ثُمَّ أَكَلَهَا، ثُمَّ قَالَ: (يَا عَائِشَةُ، أَحْسِنِي جِوَارَ نِعَمِ اللَّهِ، فَإِنَّهَا قَلَّ مَا تَزُولُ عَنْ أَهْلِ بَيْتٍ فَكَادَتْ أَنْ تَعُودَ إِلَيْهِمْ)... نعم؛ إذا زالت النِعمة من أهل بيت؛ فإنّها قد لا تعود إليهم مرّة أخرى! ... ومن يدقق كثيراً في معاني الحديث، يجدها تثير الرهبة والخوف، وأنّها إنذارٌ ربانيّ على لسان رسولنا، حتى نعُيد حساباتنا وننظر في مستقبلنا ومستقبل أولادنا!