د. محمد عبدالله العوين
كان ملك ملوك إفريقيا صاحب الكتاب الأخضر قائد الثورة الذي يلقّب نفسه بـ«الأخ القائد» يدّعي التقشف ويتظاهر بالتواضع ويرسم صورة الزاهد في المناصب والكراسي؛ فإذا حضر مناسبة جماهيرية مرتب لها مسبقاً يباغت الحضور بدخوله فجأة ويجلس في آخر صف يراقب برنامج الاحتفال كأحد المدعوين العاديين!
وهكذا دأب (الأخ القائد) كما يحب أن يلقّب نفسه على رسم صورة مثالية كاذبة سعى جاهداً إلى ترسيخها في وجدان الشعب الليبي، وسخر أجهزة الدعاية والإعلام في ليبيا لخلق صورة (الثائر القومي) و(المناضل الأممي) وفرض على الإذاعة والتلفزيون قراءة أسطر في بضع دقائق من كتابه (الأخضر) قبل كل نشرة أخبار!
وفي إحدى الزيارات الإعلامية القديمة لتونس سكنت في فندق (خليج القردة) على شاطئ البحر الأبيض المتوسط في ضاحية قريبة من العاصمة تونس، وكان إرسال الإذاعة الليبية قوياً بحيث كنت أستمع بوضوح إلى كثير من برامجها وقت فراغي من العمل، فكان المذيعون مكلّفين بقراءة جمل مختارة من دجله وكأن ما كتبه منفستو أو دستور لا يقبل الجدل، فكان ينظر لجوانب الحياة المختلفة من وجهة نظر شخصية خالصة، قاصداً أن يضع منهجاً جديداً للحياة أسماه (النظرية الثالثة) وكان يقصد أن الرأسمالية والشيوعية نظريتان لم تفلحا في منح الإنسان السعادة ففكر ودبر وكون نظرية جديدة ملفقة من الشرق والغرب ومن القديم والجديد ومن العقل والجنون ومن الخيال والواقع عن المرأة والزواج والتربية ورأس المال والثروة والعمل وحقوق العمال والغنى والفقر والعدالة والسلطة وغيرها من قضايا الحياة.
حاول القذافي الموهوم بالانقلاب على الواقع العربي والإسلامي وحتى العالمي أن يرتفع من مستوى العسكري قائد الانقلاب إلى المفكر القائد. شعبه الليبي احتار طويلاً معه: هل هو إسلامي أم اشتراكي أم قومي؟ وهل هو عربي أم إفريقي؟ وهل قائده عاقل أم مجنون؟ عادل بر منصف أم دكتاتور دموي قاتل في ثوب زاهد في المناصب والألقاب؟
كوّن اللجان الجماهيرية واختفى خلفها بناءً على نظريته الثالثة المزعومة التي تقول إن الجماهير تقود نفسها وتعلّم وتطبّب وتنفق على نفسها، وإن وظيفة قائد الثورة ليس الحكم؛ بل ما هو أبعد من ذلك التفكير في التغيير الأممي!
ومع رحلة الجنون هذه وضع يده في يد كل جماعة إرهابية أو منظمة منشقة عن مجتمعها ومنحها الأموال لتنفيذ مخططاتها في هدم الدول، بدءاً من المنطقة العربية وليس انتهاءً بدول أمريكا الجنوبية أو إيرلندا أو إسبانيا أو إفريقيا وغيرها.
وأرسل القتلة بكواتم الصوت لمن هرب وفر من الجنون الثوري ولاحقهم في لندن وبرلين وباريس وغيرها.
أراد القذافي المجنون أن يكون جيفارا وكاسترو وغاندي وماركس وفشل، وأراد أن يكون وارث القومية العربية بحماقاتها وموحّدها وفشل، وأراد أن يكون الجامع القائد للأمة الإفريقية وفشل.
ومن هنا تتكشَّف أسرار خيمة الضرار التي يحملها في حلِّه وترحاله كحلقة في تجارب الأممي المجنون الذي وجد خونة يستغلون جنونه لتحقيق مآربهم الشيطانية... يتبع