اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
يا سبحان الله العظيم! من يتأمل للحظة تاريخ البشرية، يلاحظ أنه على رأس كل قرن جديد تقريباً، تجتاح العالم كارثة طبيعية تغيِّر وجه الحياة، وتترك بصمتها راسخة إلى الأبد، من سيول جارفة وفيضانات وتسونامي عنيف، وذوبان جبال جليدية، وزلازل وبراكين وحرائق، وقحط وجفاف، وأوبئة مختلفة الأشكال والألوان والأضرار.. ويبدو أننا بدأنا نضيف إلى تلك الكوارث الطبيعية، مصائب أخرى من صنع الإنسان، نتيجة توظيفنا الشيطاني للعلم والتقنية، كالعبث بتقنية الهندسة الوراثية، والخلايا الجذعية، والتقنية الرقمية، وبالطبع لن ننسى الحروب المدمرة.. إلخ.
ولأن المجال لا يتسع لحديث مستفيض في هذا الشأن، سأكتفي بإشارة سرعة فقط للإنفلونزا الإسبانية التي اجتاحت العالم قبل المائة سنة الأخيرة بأسماء مختلفة كالحمى الإسبانيولية، والوافدة الإسبانيولية، والجائحة الإسبانيولية وغيرها؛ وظهرت في ثلاث موجات عنيفة، وعمَّت قارات العالم كلها.
ومع أن العلماء أجمعوا على أنها ظهرت لأول مرة في فرنسا، إلا أنها عُرِفَت هكذا، لأن إسبانيا كانت أول دولة سُجِّلَت فيها وفيات بسببها. ولما كان الشيء بالشيء يذكر، أرى أن يتفق العالم اليوم على تسمية جائحة كورونا هذه، بـ(الإنفلونزا الإيطالية).. صحيح أنها ظهرت في الصين، لكن إيطاليا ودَّعت ثلث سكانها بسببها إلى مثواهم الأخير. أقول: أصابت الإنفلونزا الإسبانية ثلث سكان العالم، وأودت بحياة نحو (10) إلى (20) مليون شخص ممن أصيبوا بها، وقُدِّرَ هذا العدد بنحو (3) إلى (6 %) من سكان العالم الذين ودَّعهم أهلهم إلى المقابر بسببها.
وقيل إنه حتى في نجد هنا، كان الناس يودعون يومياً عشرات من أهلهم، حتى تعب حفارو القبور من كثرة الحفر. ويُقَالُ إن أبرز من فقدتهم نجد بسببها هما الأمير تركي (الأول) ابن الملك عبدالعزيز آل سعود، أول مولود للمؤسس، وقد كان يومئذٍ في الثامنة عشرة من عمره، ثم الأميرة الجوهرة بنت مساعد بن جلوي بن تركي آل سعود، زوجة الملك عبدالعزيز، والدة الملك خالد والأمير محمد والأميرة العنود؛ التي عُرِفَ عنها حُب الخير، وقد أوقفت كتاباً على طلبة العلم بعنوان (الترغيب والترهيب من الحديث للإمام زكي الدين عبدالعظيم بن عبدالقوي المنذري)، كما كان لها اهتمام بالفروسية، ولهذا كانت تشجع الأمراء وتحفزهم لممارستها لما تدرك من فضلها. وقِيل إن الملك عبدالعزيز حزن عليها حزناً شديداً، وكتب في ذلك شعراً باكياً رثاها فيه. وأمر بإغلاق غرفتها الخاصة في القصر، ولم يسمح لأي شخص بدخولها غير أخته نورة. وبسبب كثرة الموتى في تلك السَّنة، ما زال أهل نجد حتى اليوم يطلقون عليها (سَنة الرحمة).
وها نحن بعد مائة عام تقريباً من ظهور الإنفلونزا الإسبانيولية، نعيش كارثة كورونا، أو قل (الإنفلونزا الإيطالية)، كما يحلو لمحدثكم تسميتها، التي تكاد تكون توأماً لتلك الجائحة الإسبانيولية، التي ظهرت في (سَنة الرحمة- 1919) في الشكل والمضمون، وإن كان الجميع، أو لنقل السواد الأعظم، يرى أنها سوف تتفوق عليها كثيراً في ما يترتب عليها من آثار.
وفيما كان للإنفلونزا الإسبانيولية التي اجتاحت العالم قبل أن يفيق من مداواة جراحه الغائرة إثر الحرب العالمية الأولى، ثم ما هي إلا بضع سنوات حتى أطل شبح الحرب العالمية الثانية التي تكبد فيها الغرب خسائر هائلة في الأرواح والممتلكات.. أقول: فيما كان لاجتماع تلك العوامل المهمة آثار شديدة الوطأة على الغرب، مقارنة بما تجرعته بقية دول العالم من مرارة بسببها، إلا أنها كانت بمثابة جرس الإنذار الذي أفاق الغرب مما كان يعيش فيه من تناحر، سعياً للسيطرة على الثروة وبسط النفوذ؛ فوضعوا الكرة على الأرض كما يقول الإخوة الرياضيون، وأصلحوا ما بينهم، واتفقوا على بسط سيطرتهم على ما أطلقوا عليه اصطلاحاً (العالم الثالث)، من خلال اتفاقية سايكس- بيكو، وتأسيس دولة اليهود في فلسطين لتكون بمثابة (مسمار جحا) في قلب العرب؛ فضلاً عن اتفاقهم على نقل الصراع إلينا، ومن ثم جعل هذا الذي أطلقوا عليه (عالماً ثالثاً)، يعيش في صراع ونزاعات وحروب أهلية، أو حروب بينية عن طريق دعم الأنظمة الاستبدادية وإغرائها بالدعم والمساعدة، ثم الانقلاب عليها بعد توريطها، ليظل الكل مشغولاً إلى الأبد بتثبيت الحكم، لتبقى بلداننا مورداً خصباً لحاجة الغرب من المواد الخام، وسوقاً رائجة لمنتجاته؛ فيما تفرَّغت شعوبه لتأسيس الجامعات المرموقة، والمعاهد العملاقة، ومراكز الأبحاث، لتأسيس بنية تحتية راسخة متينة، تُؤَمِّن لهم العيش الكريم.
ولعمري، هذا ما حدث بالضبط، ولا يزال مستمراً حتى الساعة للأسف الشديد. فبلدان (العالم الثالث) كلها اليوم خارج المعادلة، ترزح تحت وطأة فقر مدقع في كل شيء، لاسيَّما معظم الدول العربية ذات الأنظمة العسكرية الاستبدادية. وأصبح الجميع متلقياً لكل ما يأتي من الغرب، من الإبرة حتى الأسلحة التقنية الحديثة.. يتلقفه بنهم شديد، ويكتفي بالتفاخر بامتلاكه. وهكذا أصبحنا طرائق قددا، ولم يكن لنا أدنى طموح في منازعة (العالم الأول) السيطرة والتقدم العلمي، وفرض وجودنا رغم أنفه، وتأثيرنا باجتماع كلمتنا وتوظيف علمنا لمصلحتنا، وعدم انتظار فتات موائده، ليخشى الغرب عصانا الغليظة، أو يطمع في الحصول على جزرتنا الطازجة الشهية، لكن بما تستحق من ثمن، وليس مجاناً كما يحدث اليوم، إذ نقدمها له على طبق من ذهب؛ بل نشكره على قبولها، معبرين له عن امتناننا وعرفاننا.
فتأملوا حال العرب والمسلمين اليوم للحظة، تجدونهم خارج كل المنظومات الدولية التي فصَّلها الغرب على مقاسه لتحديد مصير العالم، والتحكم في بقية شعوب الأرض؛ فيما بقيت منظماتنا الإقليمية تشريفية خارج اللعبة، تجتمع لتفترق، لتجتمع من جديد لإلقاء الخطب الرنانة، وتقديم الشكر والعرفان على (حسن الاستقبال وكرم الضيافة)، بل أحياناً لتبادل التهم والسب والشتم الذي قد يبلغ مرحلة الاشتباك بالأيدي، تاركين الساحة للغرب لتقرير مصيرنا في كل شيء.
والحقيقة، العرب ليسوا استثناءً في هذا، وإن كنت أرى أنهم يتحملون الوزر الأكبر، لأنهم كانوا أُمَّة رائدة في كل شيء، ثم رضوا بالانسحاب من المشهد طواعية؛ إذ تشاركهم الدول الإسلامية، ودول الشرق الأقصى، ودول أمريكا اللاتينية، والقارة السمراء دونما استثناء، ممثلة في الاتحاد الأفريقي، الذي لم يكن بعيداً عن جامعة الدول العربية في أدائه المتواضع، مع أن أفريقيا تمثل اليوم أعظم كنز للثروة التي يتوثب الغرب للانقضاض عليها مع بزوغ كل فجر جديد.
وها نحن اليوم في (العالم الثالث) ندفع الثمن غالياً كلنا، بعد أن تركنا قيادة السفينة للغرب (طوعاً أو كرهاً) في كل شيء، وما علينا نحن إلا تقديم فروض الطاعة، والتسليم بكل ما يمليه الغرب علينا حتى في أدق تفاصيل حياتنا؛ فما من أديب أو كاتب أو حتى شاعر أو إعلامي أو صحفي، إلا استشهد بما قاله أدباء الغرب وعلماؤهم ومفكروهم، سعياً لإقناع الآخرين بتصديق وجهة نظره.
وصحيح.. هذا كله أمر يثير الاشمئزاز لدرجة تبعث على الغثيان وتجعل الرأس يدور، إلا أن الداهية الجلل هي تلك التي تتعلق بصحة الإنسان. فمثلما اكتفت شعوب (العالم الثالث) بالجلوس في مقاعد المتفرجين لتجتر ما يقوله علماء الغرب ومفكروه في مختلف شؤون الحياة، اكتفت اليوم أيضاً بما يصدر عن الغرب في كل ما يتعلق بفيروس كورونا الخطير القاتل هذا، بداية من ما يشاع عن تآمر الصين وأمريكا، وتدخل اليد البشرية في تحضيره في مراكز الأبحاث عن عمد لتحقيق السيطرة على العالم، إلى ما يصدر يومياً تقريباً عن نجاح هذه الدولة الغربية أو تلك في إيجاد لقاح أو علاج ناجع؛ ثم ما يلبث أولئك أن ينفوا بالنهار ما قالته وسائل إعلامهم بالليل، مما ضاعف حيرة شعوب (العالم الثالث) ولم تعد تدري من تصدق، وأي دواء تستخدم، وأي تطعيم تثق فيه، وظل مكانها سراً كعهدها دائماً.
والحقيقة، أقولها بمرارة شديدة: كم كنت أتمنى أن تنفض جامعة الدول العربية الغبار عنها، لتمسك بزمام المبادرة، ثم تدعو غيرها من المنظمات الإقليمية التي تشاركها الهم، كمجلس التعاون لدول الخليج العربية، منظمة التعاون الإسلامي، منظمة المؤتمر الإسلامي والاتحاد الأفريقي، كما يمكن أيضاً التواصل مع مجموعة دول أمريكا اللاتينية والكاريبي للاتفاق على تشكيل جبهة واحدة موحدة قوية في وجه الغرب، على الأقل فيما يتعلق بحماية صحتنا، ومن ثم استنفار العلماء والجامعات والمعاهد العليا ومراكز الأبحاث، وتوفير الدعم اللازم لتأسيس مراكز أبحاث خاصة تعنى بالبحث في الأوبئة الحالية، لاسيَّما وباء كورونا هذا الذي حيَّر حتى الغرب نفسه الذي سبقنا بقرون، إضافة للبحث فيما يمكن أن يستجد من أوبئة مستقبلية - لا سمح الله، واستباق الغرب في استشرافها وتحديد خارطتها الجينية وتجريب الأدوية واللقاحات المناسبة، وبالتالي سحب البساط من تحت أقدام الغرب الذي يتوعدنا صباح مساء بكل بجاحة بالإبادة والسيطرة على مواردنا، تارة بما يبثه من سموم في أجسادنا بسبب شراهتنا الزائدة على الحد لطعامه -أقصد سمومه- وتارة أخرى بالأوبئة الفتاكة، ومرة ثالثة بما يفتعله من حروب أهلية بيننا.. ساعتها سيضطر الغرب لاحترامنا (طوعاً)، ولن نضطر نحن لانتظار كرمه؛ بل سوف ننتزع حقنا في المنظمات الدولية التي تقرر مصير العالم، ولن نسمح له بعدها مطلقاً بتقرير مصيرنا نيابة عنَّا. وهكذا ننجح في توفير حياة كريمة لشعوب دولنا التي طالما عانت من تجبر الغرب وجبروته.
يكفي حتى هنا.. لقد تعبنا يا جامعة الدول العربية، ولم تعد لنا قوة للتحمل أكثر، فهل ممن يخجل من تواضع أدائك ويلبي دعواتنا لنفض الغبار عن أدراج مكاتبك؟.. أرجو ذلك. لكن حتى آنئذٍ، سيظل مكان العرب سرَّاً، حتى تؤكد لنا جامعة الدول العربية أنها فعلاً تخجل من تواضع أدائها، وتشعر بالأسف الشديد لما ارتكبته في حق الأُمَّة من تقصير. وكلنا على استعداد أن نسامحها حتى مع ما نشعر به من مرارة بسبب أدائها التعيس طيلة تلك العقود؛ شريطة أن تنفض الغبار الآن.. الآن.