عبدالوهاب الفايز
الأحداث الجارية في أمريكا، حتى نفهم مسبباتها، ربما نستخدم الدراسة السياسية المقارنة التي نشرها أستاذ العلوم السياسة الأمريكي سكوت هيبارد، في كتابه الذي يتناول استخدام السياسة الدينية في الدولة العلمانية، وهي دراسة مقارنة لمعرفة أثر استخدام الدين والقضايا الثقافية الخلافية على الوضع السياسي للدولة، طبّقت على الحالة في الهند ومصر والولايات المتحدة الأمريكية، وتم اختيار هذه الدول كنماذج مثالية للحداثة العلمانية.
أتذكّر أنني كنت أثناء القراءة أتساءل حول موضوعية الدراسة فيما يخص أمريكا، لأننا عادة نرى أمريكا نموذجاً للدولة العلمانية الصارمة في فصل السياسية عن الدين.
استخدام الدين السياسي في الهند كان واضحاً أثره المدمر الذي آخّر الهند وعمّق مشاكلها الاقتصادية منذ تخلت أنديرا غاندي عن روح ونهج حزب المؤتمر وتحالفت مع التوجهات الهندوسية القومية المتطرفة لأجل كسب الأصوات في الانتخابات. وهذا رأيناه في مصر عندما تبنى السادات أفكار حزب الإخوان المسلمين وبالتالي قتلوه وأدخلوا مصر في دوامة العنف والإرهاب.
أيضاً الأحداث الأخيرة في أمريكا تكشف مدى الآثار المدمّرة على الدول عندما يتم حشر القضايا الدينية والاجتماعية و(العنصرية) لتحقيق المكاسب السياسية. معاناة السود والأقليات في أمريكا في العقود الأربعة الماضية تم استثمارها في الصراعات السياسية كأداة للحشد السياسي في الانتخابات، فالجمهوريون يتبنون البرامج التي تستجيب لمصالح الجماعات المسيحية البروتستانتية المتطرفة ومصالح الشركات الكبرى، وهذه غالبًا لا تؤدي إلى تحقيق العدالة والتقدم الاقتصادي الذي يخرج الأقليات من دائرة الفقر، فمتوسط ثروة الأغنياء السود ثابت لأكثر من ثلاثة عقود، وتقدم السود في التعليم لم يحسن وضعهم.
الديمقراطيون يتبنون قضايا السود والأقليات ويستفيدون منها في الانتخابات، ولكنهم ظلوا عاجزين عن الدفع بالقضايا الحيوية لأن الجمهوريين يستخدمون برامجهم الانتخابية القريبة من هموم السود والأقليات لحشد المواقف ضدهم في أوساط الطبقة الوسطى البيضاء.
لذا ظلت الحملات الانتخابية، كما يقول المؤلف هيبارد، منذ عهد نيكسون تبتعد عن القضايا الجوهرية للمجتمع الأمريكي، والرئيس ريجان اتجه مباشرة لاستقطاب اهتمام الشعب الأمريكي بالقضايا الثقافية والاجتماعية تحاشيًا لطرح الإشكالات الطبقية والاقتصادية كأساس لعملية التصويت، مع التركيز على القضايا الاجتماعية المسببة للشقاق كأساس للحشد الشعبي، وتبني خلط المسيحية المحافظة بالوطنية كإستراتيجية للحزب الجمهوري.
وهذا التجاهل المتعمد للقضايا الأساسية والذي، كمل يقول، استهدف غرس مجموعة من القيم الدينية داخل مؤسسات الدولة والأمة، أدى إلى تصاعد وتعمّق المشاكل الحقيقية للاقتصاد الأمريكي. فالخطاب السياسي المؤدلج (أسهم في التشويش على رؤية التحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الحقيقية التي تواجهه الدولة).
في فترة حكم الجمهوريين شهدت أمريكا تضخمًا هائلاً في حجم الإنفاق الحكومي، كما يقول المؤلف، وارتفع الدين القومي أثناء إدارتي ريجان وبوش من 900 مليار دولار إلى أكثر من 4.3 ترليون عام 1993، وتحولت أمريكا من أكبر دولة دائنة في العالم إلى أكبر دولة مدينة، وأدى التحرّر الاقتصادي إلى انهيار حقيقي للمدخرات، وسهل تدهور القاعدة التصنيعية داخل أمريكا، (لذا كان على مسؤولي الحزب الجمهوري إعادة توجيه الغضب الشعبي بعيداً عن المخاوف الاقتصادية نحو القضايا الثقافية، وبقدر ما يتمكّن الجمهوريون من تعريف إطار الجدل السياسي من منظور الثقافة والدين، فسوف يستعيدون سيطرتهم على السلطة السياسية).
هذا الاستخدام السيئ للدين وللقضايا العنصرية والاجتماعية ونقلها للوجدان الشعبي هو الذي يسرّع الحركات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. حالة العنف المتوسعة التي تجري في أمريكا تعزّز القناعة بخطورة التلاعب في القضايا الدينية والثقافة في العملية السياسية.
أمريكا والدول الكبرى، لعلهم يدركون معاناة الشعوب التي تضررت كثيراً من النزاعات بسبب استخدام القضايا الدينية والثقافية لتحقيق المصالح وفرض سياسات الهيمنة. هذه الآلية خطيرة على السلام العالمي، وهي الجائحة المزمنة الحقيقية!