د.فوزية أبو خالد
«فوّضي أمرك لله ولا تنحني إلا لله.. لا تأخذك في الحق لومة لائم.. لا تكبري على الأسئلة.. لا تفقدي الطفولة.. لا تقمعي القدرة على المرح، ولا تكبحي ضحكتك ولا تخفيها في كم قميصك. أطلقي العصافير من قفص صدرك، لا تحبسي الدمع في عينيك، ولا تخنقي العبرة في حنجرتك، لا تئدي التنهيدة في حشاك، تنفسي بعمق ما وسعت رئتيك. لا تخفضي أجنحتك للقناصة.. لا تنكسري أمام متكبر، ولا تتكبري على معلم وإن كنتِ أو صرتِ أعلم منه. لا تكفي عن التعلم، ولا ترتوي من كأس العلم. لا تفرطي في وخز الضمير، ولا تتنازلي عن قلق الأمل. لا تستسلمي لغواية إفشاء سر، ولا تستخفي بطاقة الخيال الخلاقة. لا تطلبي شفاء من الحب، ولا دواء للأحلام، ولا مفرًّا من المكارم، ولا نجاة من خطورة الحرية، ولا تحرمي النفس من حلاوة اليقين، ولا تبخسي ذاتك احترامها وإن أنكرك جاهل أو متجاهل، أو ساوموك على ثمن فليس للكرامة ثمن. لا تعيشي كأنك ستموتين، ولا تتناسَي الموت كأنك مخلدة، لا تأمني خيانة الجسد ولا مرارات التجارب، ولا تتخلي عن ملذات الصبر ولا عن عزة المقاومة. لا تقبلي لتقدم في عمر أو ضعف في صحة أو لدعة رخاء أو اشتداد أزمة إضاعة خصلة الإخلاص للحياة لآخر لحظة، واعلمي أن السنة في حقيقتها ساعة، وأن الخير ليس له آخر».
هذه ((لاءات أمي)) التي اختطفت لب ثلاثين طالبة وطالبًا من طلاب ما بعد الدكتوراه، ومنهم موظفون كبار، وأمهات، ورجال أعمال، وفنانون، وكُتاب، ومدربون دوليين، إضافة إلى «ريتشارد بوور»، وهو أستاذ المقرر الذي كنتُ أحضر معه مقررًا منهجيًّا بجامعة أمريكية هنا بعنوان «النزاع السياسي»، إن لم يخني التعبير Richard Power، Political Conflict.
وتعود قصة هذا الموضوع الذي كنتُ سأنساه لولا أن جاءتني رسالة على بريدي الإلكتروني بعد مرور فترة عليه، تطلب مني إذنًا بنشر المقطع أعلاه واستخدامه في محاضرات الأستاذ بوور؛ وهو ما أثار شجن الموضوع في نفسي، وجعلني أقرر كتابة مقالي لليوم عنه.
كنتُ سجلتُ في ذلك المقرر المكثف بالعدوى من زملاء لي وأساتذة في جامعات أمريكية مختلفة، منهم أستاذة الانثربولوجيا السعودية العظيمة د. ثريا التركي، الذين لا يتورعون عن التسجيل بين الفينة والأخرى في مواد من تخصصات مختلفة. ربما من باب الحفاظ على لياقتهم المعرفية كطلاب علم وليس فقط كأساتذة. وفي ذلك المقرر كان مطلوبًا من كل طالب في نهاية مطاف الفترة الدراسية تقديم قصة أو موقف لـ»نزاع سياسي»، مَرّ الطالب شخصيًّا بتجربته، والكيفية التي واجهه بها، سواء كانت كيفية تفاوضية أو صدامية، أو أي شكل آخر من أشكال حل النزاع بالاعتماد على القوة السلمية، وإن اتخذت شكل مواجهة (كونفرانتيشن) Confrontation، على أن يقدم الطالب إضافة إلى الموقف أو القصة خلاصة التجربة في «مقطع مكتوب»، لا يزيد على 200 كلمة، يعبّر فيه عن أهم مكتسباته من الموقف، والعبرة المستخلصة التي يمكن أن يُستفاد منها في حل نزاعات أخرى قد تواجهه في الحياة، أو التي يمكن تعميمها تبادلاً للمعرفة بجانب القصة أو التجربة نفسها مع بقية أعضاء فريق الدارسين للمقرر.
ولاعتزازي ولحظي أيضًا فقد كان هناك إجماع من الثلاثين طالبة وطالبًا والأستاذ في اقتراع سري على أن الموقف الذي طرحته شفهيًّا في الفصل كما كان مطلوبًا من كل منا، والخلاصة التي قرأتها مكتوبة، هي الأكثر تأثيرًا من مجموع تجارب وخلاصات المشاركين معي في المقرر. ولم يكن الموقف الذي تحدثت عنه إلا موقف المرأة السعودية في جيلي من خلال تجربتي الشخصية في مواجهة الإشكاليات المعيشية اليومية الصغيرة، والكيفية التفاوضية اليومية أيضًا التي تبتكر لحل تلك الإشكاليات من مثل مقاومة الزواج المبكر لصالح الالتحاق بالدراسة الجامعية، ومثل مواصلة الدراسات العليا أثناء الحمل والولادة، وفي ذروة مسؤوليات الأمومة وبناء أسرة، ومثل مواجهة وحل إشكاليات يومية أو طويلة الأمد، أقل أو أكثر تعقيدًا، مثل «الإيقاف عن الكتابة»، أو مشكلة المواصلات يوم لم يكن بكل بيت سائق خاص، ولم يكن يسمح للمرأة بقيادة السيارة... إلخ. أما الخلاصة المطلوبة مني للمقرر من خلال تجربتي فلم تكن إلا تلك الكلمات التي انتحلتها من أمي، وكتبتها باسمي كما فعلتُ بتلك الكلمات هنا، ووضعتها في أعلى المقال. وهي الكلمات التي تربيتُ عليها، وحفرتها أمي في فكري ودمي؛ فشكلت لي منهجًا تفاوضيًّا ومقاومًا معًا في مواجهاتي الصغيرة من طفولتي إلى اليوم على تفاوت خبرتي ودربتي في فهمه وتطبيقه عبر محطات العمر المختلفة. أما سر إعجاب الطلاب والأستاذ بموضوعي وبحلوله وخلاصته فقد جرى تلخيصه في القول: إن النزاع السياسي بمعناه الفلسفي والحياتي، لا بالمعنى السياسي المصطلحي الضيق, ليس إلا اختبارًا لإرادة الحياة.