د. محمد بن يحيى الفال
«المدير في اجتماع»!، عبارة ترددت على مسامع الكثير ممن كانت له معاملة أو مراجعة في حقبة الثمانينيات من القرن المنصرم. كان الجميع بلا استثناء يجدون العذر لانخراط المدير في اجتماعاته الماراثونية، التي بدا لهم أنها بلا نهاية، فهو المدير المسؤول عن الجهة والتي تفرض عليه مسؤوليات وظيفيته القيادية في انشغاله دوماً في اجتماعات من أجل الجهة التي يمثلها، من أجل الارتقاء بها نحو تحسين مستوى أدائها لخدمة المراجعين. بيد أن ما اتضح لاحقاً فالعبارة الشهيرة عن انشغال المدير في اجتماعات لم تكن في جُلها سوى عذر بعيد عن الحقيقة، والتي اتضحت بأنه قد تم استعمالها لتبرير غياب المدير المستمر عن مقر عمله وانشغاله بأمور خاصة له لا علاقة لها بعمله لا من قريب ولا من بعيد. منذ عقد من الزمان تقريباً تغير وتطور الحال فلم يعد المدير وحده هو المتغيب في اجتماع، بل ومع الوقت بدا أن جميع الموظفين منخرطون في اجتماعات يومية وهو أمر أضحى القاسم المشترك وبالكاد تجد موظفاً لم يُشارك في اجتماع لجهة عمله بشكل يومي أو أسبوعي أو شهري على أقل تقدير. اجتماعات العمل أضحت ظاهرة تحتاج للكثير من الدراسة المعمقة لتفكيكها والتعرف على سلبياتها وإيجابياتها، وهي من المواضيع الملحة والمثيرة للاهتمام وتحتاج لعناية من أقسام علم الاجتماع التي تتبع للجامعات وهي كثيرة ولا تكاد تخلو جامعة من قسم لها. لعل السبب الرئيس من أهمية دراسة ظاهرة اجتماعات العمل بتمعن لكونها غدت تستنفد الكثير من وقت العمل، ولعل المشكلة الأكبر تكمن في كونها أضحت عائقاً في تنفيذ الأعمال عوضاً عن تسريعها وهو المأمول منها. تاريخياً وبتتبع الكيفية التي نبعت وانطلقت منها اجتماعات العمل في العمل الإداري في المملكة فربما تعود بدايات ذلك مع بداية عمل شركة الزيت العربية الأمريكية حينها وشركة أرامكو حالياً والتي كان العمل فيها نتاجاً لآليات العمل الإداري في الولايات المتحدة الأمريكية والذي يضع اجتماعات العمل كجزء مهم في عمل القطاع الحكومي والخاص، ولسبب رئيس ومهم وهو معرفة مدى الالتزام بتنفيذ خطط العمل وتقييم مكامن الإيجابيات والعمل على تعزيزها، والكشف عن السلبيات للحد منها والقضاء عليها، إضافة إلى مناقشة الخطط والبرامج الجديدة في تطوير العمل، والتي يُلتزم بتنفيذها في جدول مواعيد محدد يناقش في اجتماعات العمل القادمة ولا يتم الالتزام بخطط جديدة إلا بعد الانتهاء من امشاريع والخطط التي تم الاتفاق عليها. الموجة الثانية من ثقافة اجتماعات العمل التي دخلت لعالم الإدارة في المملكة كانت في جُلها أيضاً أمريكية، وذلك من خلال مشاركة الكثير من الشركات الأمريكية الكبرى في الطفرة التنموية الكبرى التي شهدتها المملكة في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن المنصرم.
ثقافة اجتماعات العمل الأمريكية التي لسوء الحظ أخذنا منها التنظير فقط، تتكون من عدد من الأهداف الواضحة المعالم الخالية تماماً من التعقيد الذي يلف الكثير من اجتماعات العمل لدينا، فهي تهدف لطرح الأفكار وفرص جديدة تخص العمل والبحث عن حل للمشاكل التي قد تطرأ على تحقيق إنجازات العمل والتفكير الجمعي لحل هذه المشاكل، وتهدف كذلك لإعطاء الفرصة لكل المشاركين في الاجتماع من عرض أفكارهم بكل شفافية، وعلى أن يكون المشاركون في الاجتماع ممن لهم علاقة بموضوعه، وهو الأمر الذي لا يحدث في كثير من الأحيان في اجتماعات العمل لدينا، وما يميز الطريقة الأمريكية في ثقافة اجتماعات العمل الأمريكية بأن المشاركة ليست تشريفاً بل هي تكليف ينطوي على مُحاسبية تضع الجميع كلاً في اختصاصه مسئولاً عن تنفيذ ما تم الاتفاق عليه. إحدى أهم ركائز ثقافة اجتماعات العمل الأمريكية هي معرفة كل المشاركين بجدول أعمال الاجتماع وبوقت كافٍ يتيح لهم الاستعداد بشكل فاعل في الاجتماع، وبهذا الخصوص وبسؤال عدد من العاملين في القطاع الحكومي والشركات الحكومية أفادوا بأنه من النادر جداً أن يتم إطلاعهم على جدول أعمال الاجتماعات التي يدعون إليها.
مشكلة الإدارة في المملكة حالياً تكمن بأنه ليس المدير وحده في اجتماع كما كان الوضع سابقاً، فالكثير من الموظفين كذلك في اجتماع، سواء في داخل مقر عملهم أو خارجه، وأقروا فيها الكثير من التوصيات، ولو تسنى لنا الاطلاع على أرشيف كل وزارة وهيئة لوجدنا كمًّا هائلاً من توصيات هذه الاجتماعات، وبالتدقيق فيها لوجدنا أنه بالكاد تم تنفيذ جزء محدود منها.
ختاماً، عندما يتعلق الأمر بثقافة اجتماعات العمل، فيبدو أننا أخذنا من التجربة الأمريكية التنظير وتركنا التطبيق، ولقد آن الأوان لتدارك هذا الخلل المزمن.