د.عبدالله بن موسى الطاير
فجأة وجد الرئيس الأمريكي نفسه وسط أزمات بعضها فوق بعض. ولكن قبل الولوج في التفاصيل نتوقف عند سؤال: ما لنا ولأمريكا؟
شئنا أم أبينا، أحببناها أم مقتناها فهي متورِّطة إلى العظم في تفاصيل حياة الناس اليومية في أكثر الدول غنىً واستقراراً، وفي أشدها فقراً وفوضى، وفي أفضل المدن وأرغدها عيشاً، فيينا عاصمة النمسا، وفي أسوأ المدن للحياة، دمشق عاصمة سوريا. ليس من دولة مزدهرة إلا وتقتبس من رضا أمريكا مدداً، ولا دولة حائرة منهكة متعبة إلا وتسطلي بغضب أمريكا شرراً يقدح في هشيمها. ولذلك فإن قراءة ما يحدث في أمريكا هو في نهاية المطاف استشراف لما يمكن أن ينعم به العالم أو يعانيه جراء أي متغيّر لافت في مركز صناعة قرار العالم.
يقول الرئيس الأمريكي (الجمهوري) السادس والعشرين (1901-1909) ثيودور روزفلت إن «العيوب المتعارف عليها في السياسة الأمريكية تجنب قول الحقيقة في القضايا الحقيقية»، وقد ارتكب الرئيس ترامب هذه الخطيئة، ولذلك فتحت عليه أبواب أوصدها أسلافه. فعلى سبيل المثال يدرك الساسة المعتقون أن الإعلام الجماهيري التقليدي في أمريكا لا يمكن أن يتعامل بإيجابية مع الموضوعات التي يتفق عليها الحزبان؛ إنه بطبعه منحاز إلى طرف، لكن لم ينقل عن أي من الرؤساء الأمريكيين السابقين أن وصف الصحافيين بـ «الحثالة»، الذين «يجب إعدامهم»، كما أن الأسلاف تعاملوا بحذر مع مكونين أساسيين في السياسة الأمريكية وهما الدين والعنصرية، في حين ولجهما ترامب من أوسع الأبواب.
كتاب جون بولتون المعنون: «المكتب حيث حدث ذلك.. مذكرات البيت الأبيض»، مختلف عن أي إصدار آخر لأنه بقلم جمهوري، يميني متعصب، ينتمي لصقور المحافظين الجدد، وعمل مستشاراً للأمن القومي الأمريكي في إدارة الرئيس. جون بولتون شخصية مثيرة للجدل، ولذلك لم يجرؤ الرئيس جورج بوش الابن على تقديمه للكونجرس لاعتماده مندوباً دائماً لأمريكا في الأمم المتحدة، وإنما استخدم حقه الرئاسي في تكليفه أقل من عام، فقد كان يعرف سلفاً أنه لن يجتاز الكونجرس. تجدد عدم الوفاق بين بولتون والكونجرس في رفضه حضور جلسات الاستماع في مجلس النواب حول تورّط الرئيس في المقايضة مع أوكرانيا.
ما أعتقده أن جون بولتون لم يكذب فيما تسرّب من مذكراته حتى الآن، ومن ذلك تحويله الحديث مع الرئيس الصيني «بشكل مذهل إلى الانتخابات الرئاسية الأمريكية (2020، مشيراً إلى قدرة الصين الاقتصادية، وطالباً من الرئيس شي أن يضمن فوزه في تلك الانتخابات»، وقد فعلها من قبل مع أوكرانيا، وربما مع روسيا، فالبقاء في السلطة لتاجر طموح ومختلف يحلّل له كل السبل المحرّمة. وسبق وأن كتبت وغرّدت أن الرئيس ترامب لا يتطلع فقط إلى دورة رئاسية ثانية وإنما إلى تحقيق رقم قياسي يتفوّق به على الرئيس الأسطوري (الديمقراطي) فرانكلين روزفلت، ولا أستبعد أن يكون في مخيل الرئيس فكرة تحويل أمريكا إلى مملكة. ضرب من الأمنيات، بالطبع، وسواء أكانت مشروعة أم غير مشروعة فقد نقل عن الرئيس قوله للرئيس الصيني إن «الشعب الأمريكي يقول إن تقييد الرئاسة بفترتين فقط يجب أن يرفع في حالته»، وإذا حصل الرئيس على فترة ثانية فإنني لا أستبعد إن رزقه الله عمراً وصحة أن يحاول تعديل الدستور الذي يتطلب أغلبية الثلثين في القضايا الجوهرية.
جون بولتون استثمر الظروف لتسويق كتابه، وأعتقد أن الرجل لسان حال بعض القيادات الجمهورية الصامتة ليس رضاء بما يصنع الرئيس وإنما خوفاً من تحشيده الناخبين ضدهم. وعلى أية حال تفصلنا 4 أشهر ونصف عن الانتخابات الرئاسية، وما يجري خلف الكواليس من الحزبين أضعاف المعلن؛ جماعات ضغط تعمل ليل نهار، وخلايا يقظة للحشد، والتنقّل من دار إلى أخرى لتسجيل الناخبين الجدد، وإغراءات وصفقات، واتصالات شخصية، وغرف عمليات وجيوش إلكترونية لنبش ماضي المرشحين والدفع به للعامة للتأثير في قراراتهم الانتخابية، ومستشارون ومكاتب متخصصة يديرها شياطين من الإنس أمثال روجر ستون ينفذون كل ما تتفتق عنه أفكارهم الجهنمية لتحطيم المنافس. الوجه الرومانسي الملهم للديمقراطية تسهم في صناعته أوجه بائسة مترعة بالشر لا يراها عامة الناس، ولذلك فالأيام والأسابيع القادمة حبلى بالقصص والمفاجآت التي يتضاءل معها تأثير كتاب بولتون.