كان يحيط بالعلماء والكبار من طلبة العلم، ولأهل البديعة، وأهل الرياض الأولين، ولا تزال تلاوته النجدية تتردّد أصداؤها في حارات البديعة وبين جدران بيوتها كلما دخلها أحد من سكانها القدامى.
ولا يزال صوته النّدي باقياً في ذاكرة طلبة العلم المتوافدين على جامع الأميرة سارة بحي البديعة القديم بالرياض بعد انتقال دروس ابن باز إليه فترة إعادة بناء جامع الإمام تركي.
كان لابن مقيرن دكان في سوق البشوت والمشالح (الهِدم قديماً، الزّلّ حديثاً)، ولا يكاد يخلو دكانه من الزوّار من المشايخ، وكبار آل الشيخ.
أكثر زوّاره ترداداً عليه: سماحة المفتي عبدالعزيز آل شيخ، فقد كان بينهما مجالس ودّ ومؤانسة، ودائماً ما تُعطّر بأيّام آل الشيخ الغابرين، ويتخلّلها أزيز صدر الزّائر ثم دمعته؛ لأنّ صوت المزور ينبعث من صدق الوفاء للغابر، ويلعثمه الشوق له، ولا تزال عبرته تُعيق سلاسة السياق وتعيقه.
محيط دكان ابن مقيرن يعرفه الأمراء وكبار الرياض، وبينهم وبينه وشيجة، وإذا قلبت طرفك فيه تذكّرت (الحكم لله ثم لابن سعود)، وقول أبيك وأبي (الله لا يغيّر علينا) فهو مجاور لقصر الحكم، ولجامع الإمام تركي، وبالقرب منه جامع ابن شلوان تولى إمامته قديماً قاضي الرياض الشيخ صالح آل الشيخ ت:1372هـ
وكنت أصلي فيه كلما أزّني الحنين إلى ماضي طمأنينة الفكر ودفعني الانزعاج الى طمأنينة البصر، وحيناً أصلي في مسجد الديوانية (كان مؤذّنه ابن محمود)، الذي لا تزال عليه آثار القديم، وأحاول الغياب في الماضي، حتى أنّي أصطفّ في زحام المتوضّئين، وأنا على وضوء، تكريساً للهرب من الحاضر.
وأذكّر نفسي مرةً بعد مرة بأنني في (الدّحو) الحي الذي فيه بيوت آل الشيخ، ويجاوره حيّ الوسيطا الذي فيه بعض بيوت أمراء آل سعود، ودخنة وما أدراك ما دخنة.
ويكدّر صفو ذهني ما يجعلني أتمتم بقول الشاعر: أمّا الخيام فإنّها كخيامهم... وأرى نساء الحيّ غير نسائها.
من الطرائف أنّ ابن مقيرن كان إذا شرع في إمامة المصلين التفت إليهم قائلاً بصوت صادح ونبرة متميّزة: استووا.
ومرّةً أخطأ فقال بصوت عالٍ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وكان يصلي وراءه أحد الأمراء، فردّ مباشرة: وعليكم السلام ورحمة الله.
ومن الطرائف: أن ابن باز كان يتعمد الصلاة خلفه فجر الجمعة، لأنه يقرأ سورتي الجمعة وهل أتى تطبيقاً للسنّة، ومرة لم يقرأهما، فقال ابن باز: عسى ما شر؟ قال: سنة يا شيخ، قال ابن باز: ولو، ولو. يقول المقيرن: (فلم أزل أقرأ بهما إلا إذا راح ابن باز للطايف أربعة أشهر تصير فرصة).
كان ابن مقيرن صاحب قلب سليم، ولا يتعرّض لأحد، وكان من صفاته المعروفة: البذل والكرم وصلة الرحم، ومن ذلك أنه قبل دخول رمضان كل سنة يذهب بنفسه ويشتري حاجات رمضان، ويزوّد بها بيوت إخوانه وأخواته وأقاربه.
وكان ديدنه البرّ والإحسان، فيُمدّ بعض بيوت الفقراء، ويخبر عنهم ابن باز.
وكان بيته مزاراً عامراً، ويضع وليمة غداء كل جمعة، ويأتيه المشايخ وطلاب العلم الكبار.
كان يعرف أهل الرياض الأولين جيداً، ويميزهم، كما يعرف بيوت الوافدين الأولين إلى الرياض من بلدان نجد، ويعرف مساكنهم وجيران كل بيت وأخواله، ويعطي تفاصيل هؤلاء قدموا من كذا، وهؤلاء قدموا من كذا.
تأثر ابن مقيرن بعد وفاة زوجته (أم خالد)، وضعف جسده وذاكرته، وازداد الضعف حتى صار لا يعرف زائره، إلا الأصفياء كسماحة المفتي، ثمّ زاد الأمر حتى صار لا يعرف أحداً، إلا أن سماحة المفتي إذا سلم عليه وقال أنا فلان؛ شدّ على يده، كأنه يقول: (الوفاء وصدق المودّة يحرّكان ما يُظنّ موته).
من جلسائه وأصفيائه الذين لم يزل يتذكرهم حتى بعد غياب عقله: الشيخ المتواضع المحبوب كريم السجايا عبدالعزيز الحمدان وكيل المطبوعات في وزارة الشؤون الإسلامية، وهو مصدري في أكثر المعلومات.
رحم الله ابن مقيرن وغفر له وجمعه بأحبابه الغابرين في جنات النعيم، وبارك في عقبه وذريته.
سوف أعيد سماع صوته بمقطع أذان جامع الأميرة سارة وتلاوة نجدية مراراً وتكراراً، فلقد هاج الفؤاد بخبر وفاة ابن مقيرن وتواردت صور الأوائل في المخيّلة وسال القلم بما كتبت فإن أحسنت فمن الله وإن أخطأت أو وهمت فاعذروني.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وعلمائنا والسابقين، وارزقنا الاستعداد ليوم المعاد وأحسن خاتمتنا.
** **
- كتبه د. عبدالله بن سعد أبا حسين