وإذا أحب الله يوماً عبده
ألقى عليه محبةً في الناس
ما من شك أن رحيل الأخيار البررة بوالديهم المخلصين في عبادة الله، الواصلين لرحمهم له أثره البالغ من الحزن في نفوس محبيهم وعارفيهم ومثل هذه الصفات الحميدة تذكرنا بصديقنا الكريم أبا مبارك -رحمه الله- الذي سبق أن سعدنا بمجاورته لنا بحريملاء منذ عقود طويلة أثناء عمله في مستشفى حريملاء العام لمدة أربعة أعوام متجاورين ومتبادلين الزيارات، فهو مُضياف طبع على الكرم وإكرام ضيوفه وإيناسهم، وعند انتقاله من حريملاء إلى مدينة الرياض أسفنا على ذلك متذكرين تلك الأيام والليالي الجميلة التي قضاها معنا في ربوع حريملاء، متمنين عودتها ولكن هيهات رجوعها: فعز الفؤاد عزاءً جميلاً:
وليس عشيات الحمى برواجع
عليك ولكن خلّ عينيك تدمعا
وقول الآخر متحسراً ومتذكراً:
فكيف إذا مررت بدار قوم
وجيران لنا كانوا كراماً
ولقد أهلّ وأطلّ على الدنيا في وادي الدواسر عام 1364هـ فبدأ دراسته الابتدائية هناك، ثم انتقل مع والدته إلى الرياض وأكمل المرحلة الابتدائية فيها بكل جد ونشاط، وقد وهبه المولى جمال الخط، لأن المعلمين الأوائل يهتمون بذلك ويشجعون طلابهم على تحسين خطوطهم لتسهل قراءة ما يملى عليهم في دفاترهم لندرة كتب المقررات الدراسية -آنذاك-:
تبلى الأنامل تحت الأرض في جدث
وخطها في كتاب يؤنس البصرا
بعد ذلك فكر الرجل العصامي (أبو مبارك) أن يعمل أي عمل مشرف ليعتاش منه معتمداً على الله -جل ثناؤه- ثم على نفسه غير معول على أي مخلوق:
وإنما رجل الدنيا وواحدها
من لا يعول في الدنيا على (أحد)
وكان أبو مبارك -رحمه الله- يجلس أمام مبني المحكمة الشرعية ومبنى إمارة الرياض لكتابة معاريض يقدمها أصحابها للجهات المختصة.. بأجرة زهيدة جداً، وبعد المغرب يقوم بتدريس بعض الأشخاص داخل قصر الملك سعود -رحمه الله-، حيث كان جميل الخط مُجيداً للقراءة والأسلوب الحسن، وكان متعاوناً مع بعض المكفوفين أثناء مذاكرتهم ليلاً داخل المساجد، وفي مواسم الاختبارات يكتب ما يملى عليه بكل دقة وأمانة، فهو محبوب لدى الجميع لما يتحلى به من رحابة صدر وخلق كريم، وقبل ذلك التحق بمعهد المعلمين فترة من الزمن، ثم التحق بالمعهد الصحي وتخرج منه، بتفوق عام 1384هـ ثم عين في وزارة الصحة وعمل في مدينة الأفلاج وأقام فيها أربع سنوات، ثم تزوج في تلك الأثناء، بعد ذلك انتقل إلى مدينة الدوادمي وعمل فيها قرابة خمس سنوات، ثم انتقل إلى الرياض وعمل فيها خمس سنوات، بعد ذلك انتقل إلى حريملاء وعمل فيها أربع سنوات (كما أسلفنا آنفاً) وبعدها انتقل إلى الرياض مواصلاً رحلته الطويلة حتى تقاعد مبكراً عام 1420هـ ثم تفرغ للعمل الخاص.. وفتح الله عليه الخير الكثير والبركة، حيث كان مكافحاً ومخلصاً في تعامله مع الغير، وكان باراً بوالديه، كما كان ملازماً لوالدته الحنون طيلة حياته، حيث انتقلت معه من وادي الدواسر إلى الرياض -بروا آباءكم تبركم أبناؤكم- وكان بيته مفتوحاً للأقارب والأصحاب، ومحبوباً لدى معارفه ورفاقه:
حبيب إلى الزّوار غشيان بيته
جميل المحيا شب وهو كريم
وكان يوصي أهل بيته وأبناءه بفتح بابه وإكرام ضيوفه، وذلك لطيب نفسه وكرمه، ولقد خلف ذرية صالحة بنين وبنات، وكانت وفاته يوم الجمعة 20-10-1441هـ، وتمت صلاة الميت عليه يوم السبت 21-10-1441هـ، ثم ووري جثمانه الطاهر بمقبرة المنصورية بالرياض، تغمد الله الفقيد بواسع رحمته وألهم أبناءه وبناته وعقيلته وأحفاده وأسرته ومحبيه الصبر والسلوان.
قضيت حياة ملؤها البر والتقى
فأنت بأجر المتقين جديرُ
** **
- عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف