أسمع كثيرًا هذه الأيام عبارات التشاؤم من العام 2020 وترقب مصيبة مطلع كل شهر جديد منه، ومنهم من يندب أيامه متمنيًا العودة للعام الذي انصرم.
لن أتحدث عن قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر، يقلّب ليله ونهاره» فحسب، بل أدعو للتوقف وتأمل الأحداث التي تجري سراعًا بين أيدينا، حينما أنظر للعالم قبل أشهر قليلة أرى أناسًا مختلفين، وكأن سكان الأرض من البشر اليوم قد تغيّروا، قد استبدلوا، قد أضحوا أشخاصًا لا تعرف فيهم واحدًا من الماضي.
عالم متغيّر سريع ذاك الذي كنا نعيش فيه، دوامة أحداث وأعداد لا تنتهي من الملهيات والأشغال نخوضها، ما كان يمكن للمرء أن يجلس فيفكر مرة لا مرتين في أي عمل مقدم هو عليه، ما كان هنالك وقت، قرر وافعل، ولا داعي لتأمل ما مضى، لا وقت للمحاسبة، للنظر خلف كتفك للحظة، لمحاولة تقدير أمور فاتت واخترنا ألا ننظر إليها أخرى، وعندنا بالطبع ما يثلج صدورنا من الأعذار والحجج آلاف.
ثم يأتي كورونا، الفيروس الذي يشل العالم، ويوقف الحياة ويهدينا كل الوقت الذي نحتاج ولا نحتاج إليه، ويهدينا العزلة والهدوء والأيام التي تجري بلا أحداث جديدة تخصنا، باختصار أهدانا كل ما لم نملكه قط وما تهربنا بعمد أو غير عمد دومًا من مواجهته، أنفسنا.. أقرب الناس إلينا، ماضينا وحتى أحزاننا التي خلناها قد ماتت وأقبرت، ويأتي الفيروس الغامض أيضًا محمّلاً بالخوف، بالكثير والكثير من الخوف، الخوف من فقدان ما اعتبرناه بديهيات مطلقة، الخوف على أحبابنا البعيدين عنَّا، الخوف على أعمالنا التي غلقنا أبوابها على حين فجأة، والخوف من القادم المبهم ومما قد يأتي به الغد القريب.
لكل مرحلة حلوها ومرها ولعل هذا أفضل ما في المسلم «صبرًا حين الضراء وشكرًا حين السراء»، لا شيء يضيع عند الله، لا صبر مفقود أجره ولا إيمان برحمة الله وبفجر عمَّا قريب سيبزغ لا يعقبه انشراح في القلب واطمئنان واستكانة، هنالك رحمة عظيمة تنبض وسط كل ما يجري، هنالك كذلك حكمة عظيمة وأمور أجرؤ أن أدعوها هدايا كورونا إلينا، هدايا لنا أن نقبلها أو نقذف بها عرض الحائط ونواصل تشكينا وتبرمنا ومخاوفنا، وكل له أن يتأمل في هديته الخاصة به.
حينما أنظر لأناس اليوم أجد الكثير من التقدير يعمر قلوبهم، تقديرهم لكل لحظة ثمينة في الحياة لكل نعمة لطالما أجزلت لهم وقلما نظروا إليها مرتين وتقديرًا للعلم والطب وأهلهما، وتقديرًا لأنفسهم التي بين جنبيهم ولمعجزة الحياة التي تنبض في صدورهم وصدور أحبائهم من حولهم، وأحسبني أحب هؤلاء الأناس الأكثر إنسانية وأكثر إحساسًا بتوحّدنا كبشر يصيب أحدنا هنا ما يصيب الآخر في أطراف الأرض ويتعاقب عليه ذات الليل والنهار وذات المصائب والأفراح.